إن أردت تجسيدا لأحد أهم تجليات فن التمثيل، فسوف تجده
فى ذلك الجيل من الممثلين الأمريكيين، الذين تربوا فى أعطاف ما عرف باسم
"استوديو الممثل" خلال بداية الخمسينيات، أو من ساروا على دربهم فى
العقود التالية، وكان من بين هؤلاء روبين ويليامز، الذى مات منذ أيام بعد فترة
اكتئاب حادة بسبب عدم قدرته على التخلص من الإدمان.
ربما بدا أن هناك مفارقة بين معاناة ويليامز من
الاكتئاب، وذلك القدر من البهجة الذى كان يثيره فى أفلامه، والنشوة والشجن
المصاحبين لها، أيا كان الدور الذى يلعبه، لكن تلك بالضبط هى مصدر سعادة الممثل
وبؤسه، خاصة الممثل السينمائى، الذى يكون عليه أن يكون جاهزا خلال لحظة واحدة
للوقوف أمام الكاميرا، والدخول تحت جلد الشخصية التى يجسدها، وفى كل مرة يستدعى من
مخزون مشاعره وأحاسيسه ما يلائم الدور واللحظة الدرامية. وأرجو ألا تقارن ذلك
كثيرا بما يحدث مع معظم ممثلينا، الذين يبدو تمثيلهم إما أقرب إلى
"الهزار" أو الافتعال، فالممثل الحقيقى يعيش أبدا كالعصب العارى، يهتز
لأرق نسمة ويرتجف من أقسى عاصفة، أو يحيا كأنه وتر مشدود لقوس ينتظر دائما لحظة
انطلاق السهم.
كان روبين ويليامز ممثلا جادا يلمس شغاف القلوب بأدواره
المأساوية، كما كان فى أدواره الكوميدية مهرجا راقيا يجعلك تنطلق فى الضحك الصافى،
لذلك كثيرا ما تمت الاستعانة به لإحياء سهرات "الاستانداب كوميدى" التى
تتوالى فيها النكات اللاذعة كالمطر. ولعل أهم أدواره على الإطلاق (وإن لم يكن
الوحيد) جاء فى فيلم "ويل هانتينج الطيب"، فى دور الطبيب النفسى المنغلق
على نفسه بسبب مأساة فقدانه زوجته، لكنه استطاع وحده أن يُخرج البطل الشاب من
إحباطاته وحيرته، وهو الدور الذى ترك أثرا عميقا لدى عشاق السينما، ربما لأن جزءا
من ويليامز الحقيقى استطاع من خلاله التعبير عن نفسه: الشخص الذى يشعر بالوحدة وسط
الناس، ويعالج اكتئاب الآخرين بينما يعود فى النهاية إلى شرنقة اكتئابه.
برع ويليامز إلى حد مثير للدهشة فى تقليد الشخصيات
واللهجات المختلفة، وبصوته فقط كان يستطيع أن يجرى حوارا ممتدا بين عدد من
الشخصيات الافتراضية من جنسيات مختلفة، لذلك كثيرا ما كان يشترك بالأداء الصوتى
لشخصيات أفلام التحريك، مثل "علاء الدين". لكن براعة التجسيد ساعدته على
أن يأخذ أدوارا بالغة التنوع، فهو الطبيب، ورئيس الجمهورية، والطيار، كما أنه أيضا
"بيتربان" أو الرجل الذى لا يغادر طفولته أبدا، أو الكائن المضحك القادم
من الفضاء الخارجى، وهو "الدادة" الطيبة الحنون، فى أحد أفلامه المهمة،
وهو "مسز داوتفاير".
فى هذا الفيلم يجسد ويليامز دور الممثل الذى يفشل فى أن
يجد لنفسه مكانا تحت الشمس، وهذا "الفشل" هو أكثر ما يثير لدى الشخصية
الأمريكية قدرا كبيرا من الهلع على مستوى العلاقات الأسرية، لذلك فإن زوجته تطلب
الطلاق، ويجد نفسه مضطرا للابتعاد عن أطفاله، حتى يتفتق ذهنه عن التنكر فى هيئة
"دادة"، وينجح فى أن تسمح له زوجته السابقة برعاية أطفاله دون أن تعرف
حقيقته، وهكذا يصير قريبا منهم وبعيدا فى آن، خاصة وهو يشاهد خطيبا جديدا
"ناجحا" يتودد إلى الزوجة والأطفال.
قد يبدو "مسز داوتفاير" للوهلة الأولى
كوميديا، وهو كذلك بالفعل، لكن تأمله يوحى بعمق كبير فى رؤية مأساة "الرجل
الأمريكى" خلال عقدى ثمانينات وتسعينيات القرن العشرين، حين كان على الرجل أن
يعانى من الهزائم الاقتصادية والاجتماعية، ولا يجد حلا إلا التنكر فى صورة امرأة،
خلال فترة اتسمت بموجة جارفة مما يطلق عليه "النزعة النسوية"، التى
حاربت عنصرية المجتمع الذكورى بالتحيز العنصرى للمرأة، وهو الأمر الذى تجسد فى
العديد من الأفلام الأمريكية خلال هذين العقدين.
لكن دور "الأم الناجحة" لعدم القدرة على آداء
دور الأب الناجح، يشير إلى روح خاصة كانت تسرى فى معظم أفلام روبين ويليامز،
وتتجلى فى قدرته على الإيحاء بأنه "الراعى" على نحو ما، كالطبيب النفسى
فى "ويل هانتينج الطيب"، أو الجنى الذى يخرج من المصباح ملبيا رغبات
"علاء الدين"، أو الأب الذى يخترع لأبنائه عالما خياليا ولفتراضيا غريبا
كاملا فى "جومانجى"، أو مذيع النشرة المحلية الساخر وهو يعيش فى أرض
المعركة فى "صباح الخير يا فييتنام"، أو ذلك الدور الذى لن ينسى، فى
فيلم المخرج بيتر وير، "جمعية الشعراء الموتى"، للمعلم الذى يرعى مجموعة
من الطلبة المراهقين، ويجمعهم معا لدراسة أشعار من قرون ماضية، ليكشف لهم ويكتشف
معهم معنى الحياة، وضرورة مقاومة اليأس والاكتئاب.
ولعل هذه الكلمات الأخيرة بالذات تؤكد لك صعوبة فن
التمثيل الحقيقى، أن تجسد أحيانا شخصيات هى على النقيض منك، وأن تبعث البهجة بينما
قلبك يبكى ألما، وأن تتحمل ضغطا عصبيا هائلا كأنك تسير دائما على حبل مشدود.
وقليلون من الممثلين الحقيقيين هم من استطاعوا تحقيق التوازن، بجهد هائل بين
حياتهم الحقيقية وعشرات الشخصيات الفنية التى يجسدونها، دون السقوط فى هوة
الاكتئاب والإدمان، كما حدث مع روبين ويليامز.
غير أن المؤكد أنه كان يملك فى كل الأوقات قلبا مرهفا،
حتى وهو يؤدى أدوار شريرة، مثل فيلم "الأرق"، الذى يدور فى أقصى شمال
القارة الأمريكية، حيث يمتد النهار فى الصيف شهورا طويلة، وتبدو الحياة يوما واحدا
بلا نهاية. إن ويليامز هنا يقوم بدور قاتل، تبدو بواعثه أحيانا وجودية أو عبثية،
يطارده ضابط ماهر (آل باتشينو)، الذى يصبح بدوره قاتلا دون قصد، لكنه يظل طوال
المطاردة مشغولا بإخفاء جريمته، بينما يحاول القاتل الإيقاع به. وهكذا فإن الخط
الفاصل بين الفريسة والصياد يتلاشى، فكلاهما يعانى من القلق الوجودى ذاته.
عبر روبين ويليامز إلى عالم آخر، لكنه ترك وراءه
عشرات من روبين ويليامز فى شخصيات أفلامه، غير أنها كانت جميعا تنويعا مرحا على
لحن حزين.
No comments:
Post a Comment