Tuesday, November 19, 2013

السينما المصرية والسياسة.... هل يحكمها المثل العامي: "إبعد عن الشر وغنِ له"؟


علاقة السينما المصرية بالسياسة علاقة معقدة رغم ما تبدو عليه من السطح، فحين يشتعل السياق السياسي بالتطورات العميقة، مثلما هو حادث هذه الأيام، تختفي السينما السياسية تماما كما يبدو في هذا الموسم الأخير! وإذا كانت السياسة تأخذ من اهتمامات الناس الحيز الكبير، فإن السينما تبرر هروبها بأن الجمهور بدوره يريد أن يهرب إلى تسلية تنسيه مشكلات الواقع المتشابكة. لكن هل هذه الحجة حقيقية؟ أم أنها يمكن أن تكون ذريعة لعدم مواجهة المواقف التي تتطلب حسما؟ ربما كان الأمر أكثر تعقيدا من هذين الاختيارين السابقين، ولعله يكمن في بناء السينما المصرية ذاتها، على نحو لا يمكن حتى للسينمائيين "المتمردين" أن يتخلصوا منه تماما. فمنذ ولادتها، أعلن أحد رواد مخرجيها الكبار – أحمد بدرخان – في أحد كتبه، أن السينما الجيدة تدور حول "صراع رجل وامرأتين، أو امرأة ورجلين"، لأن مثل هذا المثلث – الذي كانت له جذوره في حبكة المسرحيات متقنة الصنع في القرن قبل الماضي - يتيح لصانع الفيلم تجسيد تحولات ميلودرامية عاصفة، تجعل المتفرج مشدودا إلى الشاشة. ولم يكن إذن غريبا أن يأتي الفيلم المصري الوحيد، الذي تناول ثورة يناير وتقلباتها، وقد حمل في قلبه هذا الصراع ذاته، دون زيادة أو نقصان!! وكان ذلك هو فيلم "بعد الموقعة" للمخرج الذي اشتهر عنه صنع سينما مختلفة يسري نصر الله، لكنه عندما أراد أن يحكي عن هذا الحدث المهم لجأ إلى الحبكة ذاتها، حين تبحث البطلة الصحفية المثقفة، ابنة الشريحة العليا من الطبقة الوسطى (منة شلبي)، عن الذين اشتركوا فيما تعارفت الصحافة على تسميته "موقعة الجمل"، إذا بها تقع في هوى أحد أبناء الطبقة الفقيرة (باسم سمرة) ممن كانوا مخلب قط في المعركة، ليتحول الفيلم إلى قصة صراع حول الرجل، بين هذه البطلة وزوجة الرجل مهيضة الجناح (ناهد السباعي)، وليضيع أي أثر حقيقي للحدث السياسي، الذي ترك كل المساحة للحدث العاطفي الميلودرامي. ويحلو لبعض صناع السينما المصرية ونقادها أحيانا الاستشهاد بأفلام تتخذ من الصراع السياسي قلبا لها، وعلى رأس هذه القائمة فيلم المخرج خالد يوسف "هي فوضى؟"، الذي يشاع عنه أنه تنبأ بثورة يناير. وبعيدا عن فكرة "النبوءة"، التي لا تصمد أمام ما حدث لهذه الثورة ذاتها من تداعيات، فسوف تكتشف أن جوهر الحبكة يدور في فلك صراع الحبكة التقليدية ذاتها، مع محاولة لإضفاء بعد رمزي خشن، يقول لك أن البطلة الشابة اليافعة (منة شلبي أيضا) ترمز إلى مصر، التي يعشقها على نحو مريض أمين شرطة (خالد صالح)، الذي يرمز بدوره إلى السلطة، وهو حين يعجز عن امتلاكها كما يريد فإنه يحاول اغتصابها، لكن سوف ينقذها من براثنه وكيل النيابة الشاب (حسن الرداد)، الذي يرمز أيضا إلى القانون. كما يأتي فيلم "أولاد العم" ليقول أنه يتحدث عن "الصراع العربي الإسرائيلي"، ويلجأ إلى الحبكة ذاتها، فضابط المخابرات الإسرائيلي (شريف منير) يختطف المرأة المصرية (منى زكي)، بعد أن خدعها أعواما تحت زعم أنه مصري، وتزوجها وأنجب منها، وها هو بعد انتهاء مهمته في مصر يأخذها وأطفالها عنوة إلى "إسرائيل"، ليظهر ضابط المخابرات المصري (كريم عبد العزيز)، الذي يأتي بمعجزات خارقة تفتقر إلى أدنى حدود المنطق، ويخلص بطلتنا وأطفالها ويعود بهم إلى أرض الوطن. يمكنك في هذا الفيلم الأخير على سبيل المثال أن تجعل الإسرائيلي تاجر مخدرات عريقا في الإجرام، ويكون المصري ضابط شرطة، ولن تجد تغييرا في الحبكة على الإطلاق، وهو ما يعني أن "السياسة" بمعناها الحقيقي ليست إلا خلفية يمكنك أن تغيرها بأي خلفية أخرى. وهذا هو الأمر ذاته مع فيلم "أصحاب واللا بيزنيس"، الذي بدأ "تيمة" كواليس عالم الفضائيات، متجسدة في الصراع بين مذيعين مشهورين (مصطفى قمر وهاني سلامة)، مع بعض صراعات أخرى معتادة حول الحبيبات، ويجعل الفيلم نقطة التحول تأتي مع عملية انتحارية، يقوم بها فلسطيني شاب (عمرو واكد)، لكنك سوف تكتشف أنه حادث عارض وليس محوريا في الحبكة، ويمكنك أن تستبدل به أي حدث ميلودرامي آخر. إن هذه السطحية في تناول السياسة تصبح أقرب إلى الهزل الفج، مع فيلمين يندرجان للأسف تحت مسمى "السينما السياسية"، ويلجآن إلى نوع من "الفانتازيا" التي تزيد هذه الفجاجة. الأول هو "يا مهلبية يا" لكاتب السيناريو ماهر عواد والمخرج شريف عرفة، حيث يتلخص الكفاح الوطني المصري في مجموعة من بلطجية أحد "الكباريهات" (هكذا!!)، وفيه ترمز راقصته (ليلى علوي) إلى مصر، وإن أردت الإشارة إلى فلسطين فهي "الكباريه اللي جنبنا" كما جاء على لسان إحدى شخصيات الفيلم!! أما الفيلم الثاني فهو أكثر معاصرة، لكاتب السيناريو والمخرج محمد أمين، وهو "ليلة سقوط بغداد"، الذي يبدو على السطح صرخة لاسترداد حق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، لكنه في حقيقته صرخة عواء وخواء جنسي، حين يعيد جذور كل الأشياء إلى حرية الجنس والمخدرات المقيدة عندنا!! ليس هذا في الحقيقة حكما أخلاقيا على مثل هذه الأفلام، بل هو حكم جمالي وفني، فإذا كان أي فيلم يزعم أنه يتناول موضوعا سياسيا، فإنك لا تستطيع أن تغفر له تسطيح "المضمون" لمجرد أن يطرح مثل هذا "الموضوع". وسوف تجد هذا التسطيح ذاته في العديد من أفلام نادية الجندي، التي لن يفيد شيئا أن نذكر كتابها ومخرجيها، فهي في واقع الأمر فيلم واحد بأسماء مختلفة، سواء كانت "48 ساعة في إسرائيل" أو "امرأة هزت عرش مصر" أو الجاسوسة حكمت فهمي"، وهنا أيضا لن يكون "الموضوع" السياسي إلا مبررا لتقديم بطلة خارقة في كل شيء، في الرقص والسياسة على السواء! لكن هناك أفلاما مصرية استطاعت أن تتلمس "المضمون" السياسي بقدر متفاوت من الوضوح والنجاح، لكنك سوف تلاحظ هنا أيضا أنها لم تستطع – أو تجرؤ – على تناول موضوعها بصراحة. تأمل على سبيل المثال فيلما نعتبره كوميديا، لكنه أراد أن يلمس قضية سياسية في فترة كان هذا الأمر محظورا، وهو ما أدى إلى أن الرقابة أن تغير اسم فيلم "شمشون ولبلب" إلى "عنتر ولبلب"، لأنها أدركت أنه يضع الصراع العربي الإسرائيلي في إطار قصة كوميدية شعبية، تدور حول الصراع بين ابن الحارة (شكوكو) والدخيل عليها (سراج منير). تتحول هذه الكوميديا إلى ميلودراما صارخة مع فيلم يوسف شاهين "عودة الابن الضال"، الذي يدور حول عائلة يسيطر عليها الابن الأكبر، بعد أن غاب الابن الأصغر في المعتقلات أعواما طويلة، وبعد أن يعود يبدو مهاودا مهادنا، لكن الصراع الدموي يتفجر في النهاية، في شكل أقرب إلى المذبحة التي لا تبقي ولا تذر. وهي الميلودراما ذاتها التي كان الكاتب أسامة أنور عكاشة والمخرج عاطف الطيب يعشقانها في أفلامهما معا، وعلى رأسها "كتيبة الإعدام"، حول البطل العائد من غيبة طويلة وراء القضبان، بحثا عن المجرم الحقيقي الذي سرق "حرب أكتوبر"، وأودى ببطلنا إلى السجن. سوف تجد ظلالا من هذه الرمزية السياسية في أفلام مثل "آيس كريم في جليم" لخيري بشارة، الذي يتحدث عن جيل التسعينيات الحائر في تحديد هويته، ويريد أن يتحرر من القيود التي يعتبرها تقليدية. أو فيلم "الدرجة الثالثة" لماهر عواد وشريف عرفة، عن الطبقة الفقيرة التي تصبح وقودا للمعارك، لكنها تظل منبوذة عند توزيع الغنائم. أو فيلم "طيور الظلام" لوحيد حامد وشريف عرفة، عن الصراع بين فساد السلطة وانتهازية التيارات التي تتمسح بالدين. وأخيرا فيلم صلاح أبو سيف "البداية"، الأكثر وضوحا في موقفه من نشأة الطبقة الرأسمالية، التي تستغل فقر الشعوب وجهلها، لتزيدها فقرا وجهلا. في مثل هذه الأفلام الأخيرة نجحت السينما المصرية – إلى حد كبير – في أن تعبر الهوة الفاصلة بين الجدية والترفيه، وهوة أخرى أعمق بين حرية التعبير ورقابة السلطة. وإذا كانت الأغلبية الساحقة من أفلام السينما المصرية لا تميل أصلا لتناول السياسة، فهذا ليس فقط من باب "إبعد عن الشر وغنِ له"، لكنه بسبب كسل وبلادة متأصلين، في قطاع كبير من هذه الصناعة، ما يزال ينظر إلى الدراما كلها باعتبارها "صراعا بين امرأتين ورجل، أوبين رجلين وامرأة"!!

3 comments:

صفاء الليثى said...

أرجعت سبب البعد عن الشأن السياسى إلى الكسل والبلاده/ وأظن أن السينمائى الحقيقى صاحب موقف ولا يمكنه الابتعاد حنى لو أراد ذلك وأجمل ما فى المقال التنبيه على فيلم " عنتر ولبلب " وبعده السياسى برغم ظاهره الكوميدى والتقليل من أفلام اخرى ادعت الجدية والتناول السياسى ولكن المعالجة أبعدتها عن ذلك. ليس المهم التصنيف الذى يضعه الفنان على عمله، المهم ما يصل المتلقى وهو صاحب الحكم الأخير.

Ahmed Gharib said...

شكرا على تأصيلك لجذور القولبة بربطها بنظرة "بدرخان"، في الحقيقة لم أكن أعلم بوجود مثل هذا الإطار النظري المدون لدى صناع السينما الأوائل. لي ملاحظة لا أظنها ستغير من الخلاصة التي استخلصتها في مقالك عن طريقة تعاطي السينما المصرية مع السياسة، الملاحظة تنطلق من الإشارة إلى فيلم "زوجة رجل مهم" وأضيف إليه اسم فيلم "البريء" وبعض أعمال عاطف الطيب الأخرى، وفيلم "الإرهاب والكباب" وبعض معالجات الإرهاب السياسي باسم الدين، لكني لن اتكلم سوى عن فيلم "زوجة رجل مهم" باعتباره خارج إطار القولبة الذي يمكن ممن خلاله استبعاد الخلفية السياسية واستبدالها بإطار قانوني، أو اجتماعي كما عرضت في مقالك ببراعة وبسخرية مرة تصل إلى حد استبدال فلسطين بالكباريه اللي جنبنا! أعتقد ان في نموذج فرعي، ويبدو انه فرعي جدا، في تعاطي السينما المصرية مع "السلطة" وليس السياسة، يمثل "زوجة رجل مهم" نموذج قياسي بحكم اتقان العمل الفني نفسه، النموذج الفرعي الخاص بالعلاقة بالسلطة نموذج دائما بيتعامل مع السلطة باعتبارها سلطة مبهمة، وغاشمة، وفوقية، وبيحاول يرصد أو يتتبع أثر هذه السلطة على شخصية بريئة رومانسية مثيرة للتعاطف، معالجة زوجة رجل مهم أهميتها في انها حركت النموذج دراميا، خرجت الشخص اللي كان جزء من السلطة من السلطة، ولمست حدث سياسي هام جدا لأنه بيجسد هبة ورد فعل شعبي ضد سياسيات السلطة الغاشمة دي، أعتقد ان "البريء في شيء من النموذج، و"الإرهاب والكباب" مع فارق المعادلات، أما معالجات الإرهاب فكانت رد فعل من السينما على السلطة الصاعدة باسم الدين والتي دخلت في عداء صريح وعدوانية كاملة دون أي درجة مرونة مع السينما وأهل السينما بشكل عام صناعا وجمهورا، وكان طبيعي ان تكون ردود أفعال السينمائيين متفاوتة في المستوى ومتعددة في الكم أيضاً.

ahamadalex said...

كنت أعمل في السبعينات في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي، وشاركت في تشخيص السيدة الفاضلة الفنانة نادية لطفي، ونشأت علاقة مودة خلال فترة تنويمها بالمستشفى، وكنت ما أزال في مرحلة التكوين الفكري والمعرفي، وناقشتها حول الأفلام والمسرحيات السياسية، فضحكت ضحكتها المشروخة المميزة وقالت لي بالنص:
"ما تبقاش عبيط يا أحمد... مفيش حاجة اسمها كده.. دي سبوبة... المنتجين بيلعبوا بالورقة الكسبانة ودلوقتي الكلام في السياسة بيكسب."
وكان درساً مهماً لي، ورغم ذلك ما زلت مقتنعاً أن هناك من المبدعين الشرفاء من هو قادر على العطاء بغض النظر عم المنتجين؛ لكن تكمن الأزمة من وجهة نظري في مجمل ثقافة المبدعين لأنها في غالبية الحالات ثقافة سطحية وشوفينية، وغير قادرة على قبول الآخر أو وجهة النظر المختلفة.
وددت لو أنهم تعلموا حكمة الشافعي "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب."