Saturday, August 10, 2013

مسلسل "موجة حارة".... وحوش آدمية في غابة درامية


يُحكى أن رجلا مسافرا بالباخرة، تعطلت رحلته ذات ليلة في ميناء فرنسي بسبب قسوة العوامل الجوية، واضطر لقضاء ليلته في حانة في الميناء، حيث وجد الرواد يشربون النبيذ، وتقوم على خدمتهم نادلة شقراء، وعندما عاد إلى بلاده سألوه عن فرنسا، فقال إن جوها عاصف لا يتوقف فيه المطر، وكل الرجال الفرنسيين يحتسون الخمر، وكل النساء الفرنسيات شقراوات. ومن المؤكد أن الرجل قد تصور أنه كان دقيقا في وصفه، لأن ذلك هو "الواقع" الذي رآه. تلك بالضبط هي مشكلة "الواقع" و"الواقعية" في الفن، وربما ليست هناك كلمات أكثر مراوغة وغموضا منهما، لذلك لا تصدق كثيرا تلك العبارة التي تتصدر مسلسل "موجة حارة"، وتتحدث عن قسوة الواقع، فيما يشبه الاعتذار والتبرير لكل تلك الفجاجة التي يحتشد بها. ولأننا في عالم النقد الفني والصحافة الفنية في وطننا العربي نميل إلى التعميم والآراء المسبقة، فسوف تقرأ كثيرا قدرا هائلا من المديح للمسلسل،لا لشيء سوى أنه مأخوذ عن رواية "منخفض الهند الموسمي"، لكاتب الدراما التليفزيونية البارع أسامة أنور عكاشة، ولأن كاتبة السيناريو هي مريم نعوم، التي اشتهرت بعد نجاح معقول لفيلمها الأول "واحد صفر"، لمجرد أنه مختلف عن الأفلام السائدة. وفي الحقيقة أنه ليست كل أعمال أسامة أنور عكاشة على مستوى واحد، والأدق أن نقول أنه يتميز بحق وسط كتاب الدراما التليفزيونية، لكن أعماله الأدبية متوسطة القيمة، لأنه افتقد فيها رهافة رسم الشخصيات كما فعل في مسلسلاته، ومال إلى نوع من الميلودراما الصارخة التي انعكست أيضا في الأفلام القليلة التي كتبها، مثل "كتيبة الإعدام" أو "دماء على الأسفلت". ومن الحق القول أيضا أن أسامة عكاشة كان يبحث في الميلودراما عن قالب "جماهيري"، يحتشد "بالدم والدموع" بتعبير الدكتور علي الراعي، لكي يقترب من جمهور يسعى إلى التوابل اللاذعة، وهي المحاولة التي شاركه فيها منذ أكثر من عقدين المخرج عاطف الطيب، وكاتب السيناريو بشير الديك. لكن المفارقة تبدأ عندما تصبح الميلودراما غاية وليست وسيلة، فيبدو العالم الذي يتم تصويره بالغ القتامة، يزعم أنه يقترب من المناطق المظلمة من الواقع، وهو في الحقيقة يغرق في كهوف لا علاقة لها بالواقع، إلا التشابه السطحي، الذي يذكرك مثلا بصفحات الحوادث في الصحف، فهي مأخوذة من الواقع، لكن هل هي الواقع؟! وبالطبع، كلما كانت الحادثة أكثر سخونة وغرابة وابتعادا عن المألوف، فإن القراء يتسابقون لقراءتها، ولا تسأل بعد ذلك إن كانوا قد أصبحوا أكثر اقترابا من "فهم" الواقع، وإدراك أبعاده. ولأن كاتبة السيناريو (وصاحبة ورشة الكتابة) مريم نعوم تميل بدورها إلى تصوير "واقع" أقرب إلى الكوابيس، خاصة في أبعاده السياسية (مسلسل "ذات" مثال شديد الوضوح على ذلك)، فقد وجدت ضالتها في نسيج رواية "منخفض الهند الموسمي"، التي يعبر اسمها عن "موجة حارة" تجتاح البلاد والعباد، كان أسامة أنور عكاشة يريد بها الإشارة إلى واقع خانق، فانتهى العالم الفني في الرواية والمسلسل معا إلى أجواء مغلقة، قد تأخذ من الواقع المصري المعاصر بعض الظواهر الخارجة عن المألوف، لكنها لا ترى في هذا الواقع إلا تلك الظواهر الشاذة، والأهم أنها لا تشير من قريب أو بعيد إلى السياق الذي صنعها، بما قد يوحي في النهاية إلى الانطباع بأنه لا سبيل لتغيير مثل هذا العالم. تأمل هذا العالم الميلودرامي المتشابك في المسلسل، إلى درجة تصعب على التصديق، وربما قد لا تجدها إلا في بعض أفلام حسن الإمام، أو الأفلام الهندية التجارية. هناك في البداية صراع محتدم بين ضابط مباحث الآداب سيد العجاتي (إياد نصار) وصاحب شركة السياحة والقواد حمادة غزلان (سيد رجب)، وكالعادة فإن الضابط يظل مستحوذا عليه ضبط القواد في حالة تلبس، لكن هذا الأخير يستطيع دائما الهروب بجريمته، لأنه يرتكبها خلف نشاطات أخرى، أو لأن له علاقات "بالناس اللي فوق"، دون أن يتطرق المسلسل إلى هذه العلاقات. وبرغم أن المسلسل يبدأ بمصرع فتاة مجهولة في مصعد العمارة الموجود فيها شركة غزلان للسياحة، فإن هذا الخط يتم نسيانه إلى حد كبير، لكنه يكون على الأقل مصدرا لشك الضابط مرة أخرى في القواد، ومعاملته معاملة قاسية، فيقرر الأخير أن ينتقم من الضابط، فما هي يا ترى وسيلة الانتقام؟ كالعادة في الميلودراما الصارخة يحاول القواد استدراج زوجة الضابط شاهندة (رانيا يوسف)، التي تعاني من الحرمان العاطفي بسبب غياب زوجها طوال الوقت في عمله، وليس لها من صديقة سوى ليلى (درة) زوجة الضابط كمال (خالد سليم) زميل سيد في العمل، التي سوف نكتشف في حلقات لاحقة أنها على علاقة شائنة مع عشيق، وتبرر ذلك بأنها تحب الزوج لكن مرتبه "ما يأكلش عيش حاف" (هكذا!!). تتردد شاهندة على صالون للتجميل، تديره امرأة هي زوجة سرية للشيخ سعد العجاتي (سيد فؤاد)، عم ضابط الشرطة، والذي يحترف الدعوة الدينية في التليفزيون، لكنه لا يعلم أن زوجته تلك قوادة شريكة لحمادة غزلان في مهنته الحقيرة!! أما حمادة غزلان نفسه فهو متزوج من الزوجة الثانية الشابة نوسة (هنا شيحة)، صاحبة العلاقة الشاذة مع امرأة عجوز كانت رفيقتها في السجن!! وسوف يعاقب القدر الميلودرامي حمادة غزلان عندما يعلم أن ابنته تزوجت عرفيا من شاب، فيثور لكرامته لأنه يعتبر تلك العلاقة نوعا من الدعارة(!!)، كما أن صديقه المنحرف محسن العرايشي، الذي يسميه المسلسل بعد حلقتين أو ثلاث محسن السواحلي (مدحت صالح)، يستدرج ابن غزلان لعالم الخمر والمخدرات، فيكاد الرجل أن يشرف على الانهيار. هناك خطوط درامية فرعية تبدو تقليدية تماما في معالجتها، فالشقيق الأصغر نبيل العجاتي يحب جارته بثينة، لكن أمه دولت (معالي زايد) ترفض الزواج رفضا قاطعا لأن ابنا متوفيا لها كان يحب الفتاة نفسها (ما يذكرك على نحو ما بثلاثية نجيب محفوظ)، ولأن نبيل ثوري فلابد أنه يعلق على حوائط غرفته صور جيفارا ومانديلا وغاندي (ولا تسأل عن العلاقة بين الثلاثة)، ولا يسمع سوى أغنيات الشيخ إمام. كل تلك العلاقات المتشابكة نراها في أجواء صارخة الوحشية على الدوام، وحوارات تمتلئ تارة بالدموع وتارة أخرى بمونولوجات طويلة تشرح لنا ما خفي من أحداث. ومن الحق القول إن مجموعة الممثلين جميعا قدموا أداء لعله هو الذي أنقذ المسلسل من عدم تصديق المتففرج له، وربما عاد ذلك أيضا إلى إخراج محمد ياسين الكلاسيكي تماما، البعيد عن المبالغات الأسلوبية. أين جوهر الضعف في هذا العالم؟ إنه يكمن دائما في فقدان "السياق"، فكأن الأحداث تقع خارج الزمان والمكان، والإشارات إلى أي منهما تبدو متعسفة تماما، مثل صورة لحسني مبارك على الحائط، أو خطاب يذاع له في التليفزيون (في وقت الفجر!!). فخارج هذا العالم "الواقعي" الضيق يوجد واقع أكثر صدقا، يمثل النسيج الذي يمكن للأحداث أن تقع فيه، واقع مؤلف من ملايين الناس الساعين وراء لقمة العيش، في ظروف تزداد صعوبة، وربما ارتكبوا جرائم صغيرة، دون اضطرار لاحتراف البغاء، او ارتكاب جريمة تليق بعنوان عريض في صفحة الحوادث. قارن مثلا بخطوط درامية قريبة من تلك التي رأيناها في المسلسل، في فيلم "أهل القمة" المأخوذ عن رواية قصيرة لنجيب محفوظ ومن إخراج علي بدرخان، فهناك ضابط يرعى أسرته الصغيرة في شقة متواضعة، ومعه شقيقته الصغرى التي لا تشعر بالراحة من معاملة زوجة شقيقها، ولا يملك الضابط ما يمكن له به أن يقتني مكانا أكبر، وعندما يظهر في الأفق لص كان له تاريخ مع الضابط، وقد تحول في زمن الانفتاح إلى رجل أعمال، تمضي الشقيقة معه، ويبقى البطل عاجزا أمام التغيرات الاحتماعية والاقتصادية الجارفة. تلك شريحة مأخوذة من الواقع، تقول لنا لماذا تتصرف الشخصيات على هذا النحو أو ذاك، وتضعها في سياقها الأكبر، والأهم أن تخبرنا أن من الممكن لتلك الشخصيات أن تكون أفضل لو تحسنت الظروف. لكن عندما تصور عالما وحشيا منزوعا من سياقه، فكأنك تقول أن هذا الواقع أزلي أبدي، وليست تلك هي الواقعية بأي حال.

1 comment:

Ahmed Gharib said...

أعجبتني كثيراً هذه الزاوية: "فخارج هذا العالم "الواقعي" الضيق يوجد واقع أكثر صدقا، يمثل النسيج الذي يمكن للأحداث أن تقع فيه، واقع مؤلف من ملايين الناس الساعين وراء لقمة العيش، في ظروف تزداد صعوبة، وربما ارتكبوا جرائم صغيرة، دون اضطرار لاحتراف البغاء، او ارتكاب جريمة تليق بعنوان عريض في صفحة الحوادث".