الإعلان في أي مجال هو نوع من الوعد، بأن تحصل على منفعة معينة لو استهلكت السلعة المعلن عنها، لا فرق في ذلك بين معجون الأسنان أو السيارة الفارهة، لكن هناك مجالا جديدا للإعلان نشهده كل عام، عندما يقترب شهر رمضان الكريم، وتتسابق القنوات الفضائية في الإعلان عن المسلسلات التي سوف تقدمها. ولعلك تسأل نفسك أولا: ما الذي يدفع المحطات التليفزيونية إلى ذلك؟ إنها في الحقيقة لا تسعى إلى تقديم الترفيه والتسلية لك، بقدر ما تسعى إلى "بيعك" إلى المعلنين، الذين سوف يضعون إعلانات سلعهم – كما هي العادة – بين أوصال المسلسل بعد تقطيعه. وبالطبع كلما زاد عدد المشاهدين، ارتفعت أسهم المحطة في عين المعلنين.
وهكذا تكتشف مع إعلانات المسلسلات أن القنوات الفضائية لا تهدف إلى تقديم سلعة، كما هو الحال مع بقية الإعلانات الأخرى، بل هي فقط طريقة لـ"جر الرجل" كما يقول التعبير العامي المصري، الذي يشير إلى نوع مخفف من الاحتيال على الزبون، ليدخل المحل كي يشترى سلعا أخرى. وهنا تختلف إعلانات الأفلام عن إعلانات المسلسلات، فالأولى تقدم سلعا، بينما الثانية ليست إلا واجهة لتقديم سلع، لكن المفترض – برغم اختلافهما – أنهما يتشاركان أيضا في بعض السمات، من أهمها أن يقدم الإعلان "التيمة" أو الفكرة الرئيسية للعمل من جانب، ووجوه من سوف يجسدونها من النجوم من جانب آخر.
وبتأمل بعض إعلانات المسلسلات هذا العام، تكتشف أن الأهم عند من صنعوا الإعلان هو صور النجوم والنجمات، وأن هذه الصور ليست في معظمها إلا تنويعات على الصورة النمطية لهذا النجم أو ذاك. إن مصطفى شعبان على سبيل المثال سوف يظهر في إعلان مسلسل "مزاج الخير"، وهو يذكرك كثيرا بالعديد من أدواره في الآونة الأخيرة، التي تعتمد على كون بطله مزواجا تتهافت النساء على إغوائه وإرضائه. فيما يشبه صورة المرآة، نرى في إعلان مسلسل "حكاية حياة"، بطلة غادة عبد الرازق، التي يحوطها الرجال من كل جانب في مراحل حياتها المختلفة، وهي تأسرهم دائما حيثما حلت. وليس غريبا أن تكون مسلسلات غادة عبد الرازق تنويعا تليفزيونيا على أفلام نادية الجندي التي باتت "قديمة"، فالحبكة المصطنعة تقودها دائما من القاع إلى القمة، وتمنحها لحظات من "التمثيل" الذي لن يعني إلا مزيدا من التقلص والمبالغة.
في هذا السياق أيضا يأتي إعلان مسلسل "العراف"، الذي يظهر فيه وجه النجم الألمع في تاريخ السينما المصرية عادل إمام مليئا بالغضون والتجاعيد، وكأن الزمن قد رسم على هذا الوجه خريطة حياته، ومن الغريب على عادل إمام أن يخلو الإعلان من "إفيهاته" المعتادة، ويكتسي بدلا منها نوعا من الحزن، كما أن لمحات الإعلان تشير بطرف خفي إلى حكاية رجل له أبناء عديدون، وقرر أن ينتقل من عالم ثرائه إلى عالم الفقراء، ليؤثر فيه ويتأثر به. تلك هي تماما أيضا الحبكة التي تبدو من إعلان مسلسل يسرا "نكدب لو قلنا ما بنحبش"، في عنوان مقتبس عن أغنية لأم كلثوم، فيسرا كما هي العادة تبدو كما لو كانت تدخل عالما متشابكا من العلاقات العاطفية، لتلعب دائما دور حمامة السلام، التي لا تلبث بدورها أن تقع في شباك الغرام.
من الصور المكررة لدرجة الإملال تلك التي يقدمها أحمد عيد في إعلان مسلسل "ألف سلامة"، فلأن من المفترض أنه ممثل كوميدي، فلابد أن يلقي بالإفيهات في "كل" المشاهد والمواقف، بطريقة تبدو أقرب إلى فنون الموالد ومسرح الارتجال، بحيث يفقد رسم الشخصية معناه تماما، فالبطل في مثل هذه الأعمال يبدو هزليا وهازلا حتى في المواقف الجادة، وهي المواقف التي تلعب بشكل خاص في منطقة السياسة، حتى يظهر العمل في ظاهره نقديا وجادا، وهو في الحقيقة ليس كذلك. وبنفس القدر من اللعب بالسياسة – وإن كان هذه المرة في عمل أقرب إلى الجدية – يأتي إعلان مسلسل "ذات" الذي طال انتظاره طويلا واعترضته العقبات في تنفيذه، وهاهو يظهر للنور أخيرا، ليحكي عن بطلة رواية الروائي المصري المهم صنع الله ابراهيم، والتي تحمل أيضا هذا الاسم الغريب "ذات". تلك البطلة في الرواية رمز حي متجسد للطبقة الوسطى المصرية، والتغيرات التي حدثت للـ"ذات" خلال السبعينيات والثمانيات، لكن المسلسل يبدو أكثر طموحا، أو قل جموحا فذلك أقرب إلى الدقة، عندما ينزلق إلى ادعاء أن البطلة رمز لمصر منذ ثورة 1952، لذلك فإنه يقع في دائرة التسطيح والأفكار المكررة الجاهزة، التي تنظر إلى هذه الثورة بعين الإدانة المطلقة!!
وهناك إعلانات تشير إلى مسلسلات تدور في الماضي القريب، منها على سبيل المثال مسلسل "أهل الهوى"، الذي يحكي عن الموسيقي الأشهر في تاريخ الموسيقى المصرية سيد درويش، ويقوم بدوره هنا حفيده إيمان البحر درويش، الذي سوف يواجه تحديا حقيقيا، بين استنساخ صورة الجد على نحو باهت، وبين الإبداع الفني الجديد. لكن الإعلان يعدك بأن يحكي من بين ما يحكي عن السياق التاريخي، خاصة ثورة 1919، وعن بعض الحكايات الشخصية للفنان، الذي وقع في "الهوى" فكان ذلك إلهاما لفنه، كما سوف يتطرق بالطبع إلى سبب وفاته الذي ما يزال مثيرا للكثير من الشكوك، لكن ربما كان الأهم في هذا العمل الموسيقى التصويرية التي سوف تغلفه، وتقتبس ألحانها الرئيسية من فنان الشعب القدير.
لكن هناك أعمالا تشير على نحو مباشر وواضح إلى الحاضر، ويأتي على قمتها مسلسل "الداعية"، الذي يبشرك بأنه يتحدث عن ظاهرة الداعية الديني التليفزيوني، تلك الظاهرة التي تركت تأثيرا قويا في أبناء الطبقة الوسطى والشريحة العليا منها بشكل خاص، مما أدى إلى تغيرات جوهرية في البناء الثقافي للمجتمع المصري في الآونة الأخيرة. ويتطرق المسلسل إلى التساؤل حول صدق هؤلاء الدعاة فيما يدعون إليه، ومدى اتساق أقوالهم مع أفعالهم، وصورتهم العامة مع حياتهم الخاصة، وتلك بالطبع منطقة ملغومة في ظل الأجواء السياسية المعاصرة. ويحاول مسلسل "الركين" أن يسبر أغوار عالم مناقض، هو عالم الطفيليين الباحثين عن أي عمل، ويستغلون الأزمات للحصول على لقمة العيش، وإن كان الإعلان يشير إلى احتمال أن يكون هؤلاء ضحايا لعالم أكبر وأقوى منهم، وهذا بالضبط ما يبدو أيضا أنه ما يعبر عنه مسلسل "فرعون" الذي يدور في أجواء البلطجية، واتصال أعمالهم ببلطجة أعمق وأخطر، بينما يتحدث مسلسل "بدون ذكر أسماء" بدوره عن عالم الفقراء، الذين يتحولون إلى ضحايا ومدانين في وقت واحد، في سياق يتداخل فيه الذئاب والحملان، والملوثون والأنقياء.
هناك عملان يتناولان قصة حب، وإن كان لكل منهما دائرة مناقضة تماما، الأول هو "آدم وجميلة"، الذي يظهر من عنوانه كأنه تنويع على "روميو وجولييت"، حيث عذابات الحب النقي، الذي سوف يزيده نقاء أجواء مدينة الإسكندرية. أما العمل الثاني فهو "الزوجة الثانية"، المأخوذ كما قد يعلم الجميع من الفيلم الذي يحمل هذا الاسم، وأخرجه صلاح أبو سيف منذ ما يقرب من نصف قرن، وهو ما سوف يشكل إمكانية للمقارنة بين المعالجتين، وأداء الممثلين في كل منهما، خاصة أن الفيلم أصبح من "فولكلور" السينما المصرية، وتجري على الألسنة بعض الجمل الشهيرة من حواره، وإن كان إعلان المسلسل سوف يشير إلى امتداد المعالجة إلى ما بعد قصة الزوج والزوجة من الفلاحين الفقراء، اللذين يناضلان ضد طغيان العمدة.
قد تكون هذه الإعلانات قد نجحت إلى حد ما في الإشارة إلى موضوعها، على نحو قد يجذب المتفرج لانتظارها ومتابعتها، لكن هناك إعلانات أخرى رسبت في هذا الاختبار، حين فشلت تماما في توصيل أي رسالة، لأنها اكتفت بأن تكون مجموعة من "القص واللصق" لمشاهد من هنا وهناك، مثل إعلان مسلسل "خلف الله" من بطولة نور الشريف، أو "الرجل العناب" الذي يبدو سلسلة من النمر الهزلية التي بلا رابط حقيقي. لكن بين هذا النجاح وذاك الفشل في صنع صورة عن مسلسلات رمضان من خلال الإعلانات، سوف ننتظر حتى تأتي المسلسلات ذاتها لكي نستمتع بها، أو نتحمل عذابها!!
No comments:
Post a Comment