تزايدت الدعاوى في الفترة الأخيرة، والتي وصلت إلى حد رفع قضايا في المحاكم، دفاعا عن "فن أخلاقي"، وهو أمر كما قد يبدو للوهلة الأولى حقا، لكنه في جوهره يخفي قدرا كبيرا من الباطل، لأنه في الحقيقة يهدف إلى فرض رؤية واحدة، ليس للفن فقط، وإنما للحياة أيضا، وهو ما سوف يستتبع بعد ذلك فرض آراء سياسية بعينها، ومصدر الخطر والخطأ في ذلك كله، أنه يتستر وراء الدعوة للأخلاق، التي لا يمكن إلا أن تلقى من الجميع ترحيبا وقبولا.
لعلنا ما نزال نذكر كيف خرج علينا، منذ شهور قليلة، واحد يقول إن أدب نجيب محفوظ فاجر وداعر، لأنه يحتشد بالعاهرات. وربما كان ذلك الرجل قد أخذ انطباعه عن أدب محفوظ ليس من خلال قراءة رواياته، وإنما من الأفلام المقتبسة عنها، خاصة "الثلاثية" التي أخرجها حسن الإمام. لكن قبل أن نمضي في المقارنة، أرجو أن نتوقف أولا قبل الفرق بين مصطلحي "الأخلاق" و"الأخلاقي"، فإذا كان الأول يشير إلى معاني وأفكار مطلقة، مثل الحق والخير والجمال، فإن الثاني نسبي، يختلف من زمن إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر، ففي عصور الظلام الأوربية كان "الحق" هو مطاردة كل من يأتي بجديد في مجال العلم، بدعوى أنه يتناقض مع الدين، مثلما حدث مع جاليليلو، الذي اضطر إلى إنكار اكتشافاته عن علاقة الأرض بالشمس. وبالمثل، فإن من "الحق" أيضا أن الأديان لم تحرم الرق بشكل قاطع، وإن وضعت لتحرير العبيد والأرقاء الكثير من المغريات، لكن إذا لم يكن مستهجنا "أخلاقيا" في الماضي أن يمتلك المرء عبيدا، فهذا الأمر يبدو مرفوضا "أخلاقيا" في عصرنا الحديث.
وإذا عدنا لمثال العاهرات في أدب نجيب محفوظ، فإن فتاة الليل لم تكن عنده أبدا مادة مثيرة لغرائز القارئ، فهي تتجسد في تنويعات عديدة ذات دلالات مختلفة. إنها في الأغلب تشير إلى عالم ميلودرامي يسكنه البطل، عالم يحتشد بالمتناقضات، ففي "اللص والكلاب" على سبيل المثال تأتي الخيانة من الزوجة والصديق، بينما تعبر فتاة الليل عن الوفاء والتفاني، لأنها في هذا العالم تعرضت – مثل البطل تماما – للظلم الاجتماعي، مما يجعلهما شركاء في المصير أيضا. وسوف تجد معادلا سينمائيا ناجحا لها في الفيلم الذي أخرجه كمال الشيخ، وقامت فيه شادية بدور فتاة الليل، دون أدنى قدر من الابتذال، وسوف يؤثر هذا النموذج بعد ثلاثة عقود، في الشخصية التي أدتها هالة صدقي في فيلم عاطف الطيب "الهروب".
تأمل أيضا كيف أن العاهرة تأخذ بعدا فلسفيا غامضا عند محفوظ، ولعل أصدق مثال على ذلك هو رواية "الطريق"، التي تعبر عن حيرة الإنسان في طريقه الصعب لاكتشاف الحقيقة، والصراع بداخله بين اختصار هذا الطريق، والارتباط بزوجة خائنة وقتل زوجها، وبين استكمال البحث اليائس بمساعدة فتاة تمثل البراءة. وربما ضاع هذا المعنى في فيلم حسام الدين مصطفى عن الرواية، وبأداء شادية أيضا، لأنها افقتدت هنا رهافة الكتابة الدرامية لشخصيتها كما في "اللص والكلاب". وبالمثل، ضاع المعنى الرمزي لـ"العوالم" والراقصات في الثلاثية، اللائي كن أقرب لدلالة مرور الزمن أمام عيني البطل أحمد عبد الجواد، ولم يبق منهن في معالجة حسن الإمام السينمائية سوى قدر لا يحتمل من الخلاعة!! بل إن فتاة الليل تأخذ معى سياسيا في "السمان والخريف"، فهي الأصدق والأكثر إيجابية في التفاعل مع العالم، لتُظهر سلبية البطل الذي يكتفي بالتأسي على الواقع الذي طرأت عليه تغيرات سياسية، أقصته إلى الهامش بعد أن كان في مركز الأحداث.
المهم إذن ليس "الموضوع"، وهذا في الحقيقة خطأ تقع فيه معظم الكتابات النقدية، التي تتوقف عند سطح العمل الفني، وبكلمات أخرى: ما الذي يتحدث "عنه" العمل الفني. لكن الأهم هو الشكل، الذي يحدد المضمون، إنه الذي يتحدث "فيه" العمل الفني. إن الواقع مليء بالعناصر الواقعية، لكن الفن هو الذي يختار من بينها عناصر بعينها، ويضعها في "إطار" محدد، وينظر إليها من "وجهة نظر" محددة، وذلك وحده – وليس مجرد العناصر الأولية – هو الذي يحدد موقف العمل الفني من الأخلاق.
سوف أضرب لك أمثلة تبدو للوهلة الأولى وكأنها تدعو إلى الأخلاق، لكنها في حقيقتها تتاجر بالابتذال، وسوف يأتي على قمة هذه الأمثلة فيلم قريب يدعى "أحاسيس"، الذي يزعم مخرجه هاني جرجس فوزي أنه "يناقش" العلاقات الزوجية، لينتهي بمجموعة من النصائح بعد أن يكون قد أشبع المتفرج مشاهد بالغة الفجاجة، فكأنه يذكرنا بجريدة نشرت صورا فاضحة على صفحتها الأولى، وكتبت تحتها: هذه نماذج من الصور التي ترفض الجريدة نشرها!! كما أن معظم أفلام نادية الجندي تقع في هذه المنطقة، حتى لو زعمت أحيانا أنها تتحدث في السياسة، بعد أن تكون البطلة قد مارست قدرا كبيرا من "الاستربتيز" كأداة للنضال(!!)، لكن دعني أذكرك أن الجمهور كان يسخر من هذه الأفلام بدلا من أن يقع في أسر إغرائها، ولعلك تذكر كيف أن جملة "خالتي بتسلم عليك" (التي استخدمتها البطلة ككلمة سر!!) قد سارت على الألسنة باعتبارها تعبيرا عن الاستخفاف بالعقول.
على النقيض تماما هناك من الأفلام من تحدث عن الأخلاق برهافة بالغة، وإن بدا أحيانا كأنه يصور عالما مبتذلا. إن البطلة (نجلاء فتحي) في فيلم محمد خان "سوبرماركت" تبيع نفسها في النهاية لمن يدفع الثمن. لقدد كنا قد شاهدناها طوال الفيلم تناضل من أجل ابنتها الوحيدة، في غمار الطبقة الوسطى التي تزداد كل يوم انسحاقا، لكنها لم تستطع أن تقاوم حتى النهاية، لأن المجتمع كله أصبح "سوبرماركت" كبيرا، كل شيء فيه معروض ومعرض للبيع والشراء. وفي فيلم داود عبد السيد "سارق الفرح" فتاة ليل (عبلة كامل)، ليست إلا وجها من عشرات أوجه بللورة واحدة، هي المجتمع الذي يعيش فيه ملايين المنسحقين المسحوقين، يحاولون اختلاس لحظات من الفرح وسط هذا العالم المتجهم، لكنهم نادرا ما يحصلون عليها.
وهناك صورتان للنجمة الراحلة سعاد حسني تصوران هذا الانسحاق، وهي في الأولى تحاول التغلب عليه، في "خللي بالك من زوزو"، ابنة عالم "العوالم" التي تريد أن تتعلم وتذوب في المجتمع، وتحصل على حقها في حياة كريمة. وفي الفيلم رقصة (أو أكثر) ليس فيها ظل من الخلاعة، بل ربما وجدت نفسك متعاطفا مع هذه البطلة التي تستحق مصيرا أفضل، وفي إحدى هذه الرقصات يمكنك أن تتلمس قدرا كبيرا من الحزن، عندما تضطر البطلة، وسط زملائها من الطلبة، إلى الرقص بدلا من أمها التي تعرضت للإهانة. كما أن في فيلم علي بدرخان "شفيقة ومتولي" رقصة بالغة المرارة، تعبر عن انسحاق هذه المرأة وسط مجتمع يسيطر عليه رجال فاسدون، ثم يلقون بمسئولية هذا الفساد عليها!! ولعل ذلك يذكرنا بنموذج مناقض، في فيلم خالد يوسف "دكان شحاتة"، عندما رقصت البطلة (هيفاء وهبي) بأمر من أخيها "المسطول"، فبدلا من أن تتوقف الكاميرا عند خلجات وجه هذه المرأة المنسحقة، إذا بالكاميرا "تتلصص" على مفاتن الممثلة الراقصة، وهذا المثال هو جوهر قضية "الأخلاق" في الفن.
فإذا كانت كاميرا خالد يوسف هنا لم تتخذ موقفا محايدا يعبر عن لحظة، هي في جوهرها تحتشد بالعبثية والمرارة، واختارت أن "تستغل" اللحظة الدرامية من أجل نثر توابل جماهيرية، فإن ذلك يضفي على العمل الفني مسحة لا أخلاقية، حتى لو تخفى وراء أهداف أخلاقية. والمعيار هنا وفي كل الأعمال الفنية: ما الذي أريد من المتفرج أن يفهمه ويشعر به؟ والمخرج أو صانع العمل يختار شكل محددا من أجل تحقيق هذا الهدف، وذلك وحده – وليس مادة الموضوع الخام – هو الذي يحدد مدى اقتراب العمل الفني أو ابتعاده عن الأخلاق.
كلمة أخيرة: من يملك الكلمة الفاصلة في هذا الأمر؟ والإجابة: لا أحد، والجميع!! نعم، لا يجب أن ينصب أحد من نفسه حسيبا ومحتسبا على الفن، لأنه بذلك يسعى لفرض رؤيته وحده، ولنترك الأمر للجمهور، الذي يجب أن نسعى عن طريق الكتابات النقدية لترقية ذوقه من جانب، وتحسين ظروف معيشته من جانب آخر، فليس من المنطق أن ننادي بالتزام الفن بالأخلاق، بينما يكون الواقع بعيدا تماما عن أي أخلاق!!
No comments:
Post a Comment