Monday, September 05, 2011

مقلب برامج المقالب


منذ ظهور البرنامج التليفزيوني الأمريكي "الكاميرا الخفية" في حوالي منتصف القرن الماضي، جاءت بعده نسخ عديدة منه في مختلف المحطات التليفزيونية وبالعديد من اللغات. كان هناك سحر خفي في فكرة البرنامج، أن ترصد ردود أفعال الناس تجاه موقف مفاجئ ما، لكن نجاحه كان يعتمد في الحقيقة على عدة عوامل: إخفاء الكاميرا التي تسجل وتلتقط أكثر الانفعالات العفوية رهافة، وتحقيق متعة "شبه مرضية" عند المتفرج، هي متعة "التلصص" على الآخرين، لكن برغم بعض الاعتراضات على فكرة البرنامج من جانب بعض المؤسسات الاجتماعية، فقد استمر منذ ذلك الحين، حين وجد من يدافع عنه بحجة أنه قد يفيد فى البحث النفسي عن ردود أفعال الناس العاديين.
وكان طبيعيا أن ينتقل البرنامج إلى مصر ولو أنه تأخر بعض الشيء، وحمل عدة أسماء من بينها "الكاميرا الخفية" أو حنى "زكية زكريا"، وتفاوتت الاستجابات تجاه الفكرة، لكن أكثر ما استفز البعض هو ما بدا من اصطناع المواقف في الكثير من الأحيان، والاتفاق منذ اللحظة الأولى بين من يصنعون البرنامج ومن يقع في الفخ المزعوم، وبذلك فإنه كان يفتقد سبب وجوده. في العام الماضي جاءت تنويعات أخرى، انتقلت بالفكرة إلى أماكن لم تكن تخطر على بال، مثل "الميكروباص" أو وسائل النقل الجماعي، وهي تمثل في مصر الآن – وبسبب زحام المرور غير المعقول – مكانا "اجتماعيا" يقضي فيه المصري وقتا طويلا، ويلتقي فيه بغرباء لم يكن يتصور في يوم ما لقاءهم، ويخطط من يقدمون البرنامج لظهور مفاجئ لشخصية غريبة الأطوار، لتسجل الكاميرا ردود أفعالهم تجاهه.
بالطبع كان اختراع الكاميرات متناهية الصغر، والتقنية الرقمية التي تنقل وتسجل برهافة غير مسبوقة، وراء إمكانية صنع مثل هذه البرامج، وبقدر تفاهة المضمون في بعضها، فقد جاءت برامج أخرى بهدف أكثر عمقا، مثل "تاكسي مصر"، الذي يرمي إلى معرفة آراء الناس العاديين فيما يجري من أحداث، فكأنه نوع من استطلاعات الرأي العشوائية، التي قد تفيد معرفتها أحيانا، وإن كانت لا تخلو من ضرر قد نتطرق له في مقال قادم.
لكن المثير للاهتمام هذا العام هو هذا الفيضان من برامج "المقالب"، وهي جميعا من نوع لا يخلو من خطورة ما، وسوف نتوقف بالتأمل عند بعضها الآن. هناك برنامج يدعى "هاكشن"، ولعلك ترى كيف أنه حتى الاسم يتضمن سخرية من النمط الفيلمي المسمى "أكشن"، أي الأفلام التي تتضمن مشاهد حركة خطرة. لكن البرنامج هنا لا يخلو من سذاجة الفكرة والتنفيذ: استضافة أحد الممثلين أو إحدى الممثلات (من أهل الكوميديا خاصة بما يعكس أن المسألة لن تتعدى التهريج!)، وإقناعهم بتصوير بعض اللقطات أمام شاشة خضراء، تمهيدا لإجراء خدع إلكترونية بعد ذلك. إنهم يطلبون من الممثل أن يركب حصانا صغيرا سوف يرفسه، أو يدرب كلبا سوف ينبح فيه، أو يصعد فوق حبال يقال له بعد دقائق أنها تالفة. الهدف: إثارة الخوف في الممثل بأي طريقة!! لكن الهدف الذي نراه دون أن يقصد إليه صناع البرنامج هو توضيح كيف أن كثيرا من الأعمال الفنية عندنا يتم صنعها بقدر غير يسير من الهذر والهزل، أي أنهم غالبا ما يضحكون على عقولنا عندما يصورون أنهم يصنعون لنا "فنا"!!
لكن العدد الأكبر من برامج المقالب يضع ضيفه في مأزق قبل وصوله بالفعل إلى مكان "العمل"، ولعل أكثر هذه البرامج خطرا من ناحية الفكرة والتنفيذ هو "ما كانش يومك"، فهناك اتفاق مع ممثل أو ممثلة على عمل ما، وهو في الطريق له يلقى ما لم يتوقع أبدا أن يقابله. سوف أضرب لك مثلا بحلقة منة فضالي، إنها في سيارة التوصيل إلى موقع التصوير، يبادلها السائق بعض كلمات الترحيب المهذبة، لكنه شيئا فشيئا يسفر عن قدر غير قليل من الطيش والجلافة، فهو تارة يطلب منها "بقشيشا"، وتارة أخرى يصطنع عيوبا في السيارة تجعلها ترتج وتتمايل من حين إلى آخر. وهنا يظهر بالطبع الخوف فى عيني الممثلة ووجهها، ويتزايد صياحها في السائق الذي يتلقى منها ما لذ لها وطاب من عبارات السباب (والسيدة فضالي لا تعجز عن استدعاء قاموس كبير في هذا المجال!!)، لكن الأمر يصل إلى درجة ظهور قطاع طرق أيضا يهددون الممثلة، وعندما تصل تجد نفسها في فندق في غرفة رجل لا تعرفه، ثم تظهر زوجته التي توسع الممثلة ضربا!!
لا أدري بشكل يقيني ما دار في ذهن صناع هذا البرنامج عندما خططوا له، لكني سوف أحدثك عن رد فعل المتفرج عندما يرى ما حدث على الشاشة: إذا حدثت له مثل هذه المواقف (فهي ليست موقفا واحدا) فسوف يقابلها إما بالبلاهة، أو بسلاطة لسان مقتديا بالممثلة التي يفترض أنها نموذج يسعى الكثير من المتفرجين لتقليده!! وهي سلاطة اللسان ذاتها التي يحتشد بها برناج "بين السما والأرض" حتى أن هناك العديد من الحذف فيه في مرحلة المونتاج، غير أن ذلك لن يخفى على المتفرج بأية حال.
الفكرة هنا مقتبسة عن فيلم "بين السماء والأرض" (1959) الذي كتبه نجيب محفوظ وأخرجه صلاح أبو سيف": ركوب أسانسير يقف فجأة بين الأدوار، ويظهر أن أحد ركابه يتصرف على نحو غريب، فماذا يكون رد فعلك؟ في حلقة هالة فاخر يدخل فجأة زوجان يتشاجران في المصعد في جلبة واضطراب، وفي حلقة سامي العدل يقتحم المصعد فتى يطالب بالاشتراك في استخدامه ويوقفه عن العمل. هنا يمكنك أن ترى ما يمكن للكاميرا الخفية أن تحققه، باستخدام ممثلين غير محترفين يصطنعون موقفا ما، وفوق أكتافهم يقع عبء تطور الموقف، وهو ما يبدو أنهم عاجزون عنه بعد دقائق قليلة، فإذا بالحلقة تقع في مأزق التكرار أو السكون، أو افتعال تصعيد الموقف مرة أخرى، أحيانا لدرجة الخطر إذا اضطر الممثل غير المحترف إلى ذلك، إذا بدا له أن الأمر بات أقرب للانتهاء من قبل أن يبدأ!!
عبثا تحاول أن تبحث عن أي شيء كان صناع هذا البرنامج يسعون له عندما خططوا له، فلا تجد هدفا سوى إثارة الخوف في نفس "الضيف"، لتصبح مهمتنا هنا هي "الفرجة" عليه وهو في هذا المأزق. ومن الغريب أن يأتي برنامج آخر، بنفس الفكرة والاسم، هذه المرة هو "الأسانسير"، والفرق الوحيد أن "الفريسة" شخص عادي، يعرف عنه معدو البرنامج بعض المعلومات، ويوقعونه في مصعد معطل مع شخصية أخرى تكشف له عن بعض هذه المعلومات، مما يثير المفارقات. في إحدى الحلقات على سبيل المثال تصعد سيدة في المصعد، ويوقعها "حظها" مع سيدة أخرى تقول أنها الزوجة الأخرى السرية لزوج السيدة الأولى، وهنا يجب أن تنوقع سيل الشتائم والإهانات التي سوف يتم تبادلها بين الطرفين!!
أخيرا يأتي "رامز قلب الأسد"، والذي يبدو أنه حقق مشاهدة كبيرة بين المتفرجين، ويقدمه رامز جلال ويعتمد على استضافة ممثل شهير، وهو أيضا يصعد في مصعد يصل به إلى أحد الأدوار ليجد أسدا في انتظاره على الباب. أنت طبعا تتوقع أن الضيف سوف يبهت ويحتار في التصرف، و"متعتنا" هي التلصص عليه على نحو لا يخلو من انحراف نفسي، فبدلا من أن تأخذنا الشفقة عليه، أو على الأقل نتعاطف معه لأننا قد نكون في نفس الموقف، فإننا نضحك لأن الخطر لا يواجهنا ويواجه شخصا آخر، وهذا هو الأثر السلبي الفادح الذي ينتج عن مثل هذه البرامج.
تأمل كيف أن الواقع العربي يحتشد الآن بقدر هائل من الفواجع الحقيقية ذات الجذور السياسية، وها هو التليفزيون يصنع لنا فواجع بديلة، مستعارة ومصطنعة، ومملة في بعض الأحيان أيضا، إننا نقلب بين الفضائيات، ونتجنب أن نرى نشرات الأخبار والضحايا الذين يسقطون هنا وهناك، ونتفرج بدلا من ذلك على برامج المقالب، وياله من مقلب دبره لنا صناع مثل هذه البرامج!!

No comments: