Monday, September 05, 2011
برامج اللعب في الدماغ
تستطيع في كل البرامج التي تقدمها الفضائيات العربية أن تعثر على الأصل الأجنبي لها، ماعدا نوعا واحدا منها هو "برامج اللعب في الدماغ"، أو النميمة التي يختلط فيها كل شيء بأي شيء، حيث تستضيف شخصا لا علاقة له بالموضوع الذي تناقشه، وتطرح عليه أسئلتك كأنه الخبير الذي يدلي بدلوه، فإذا به يزيد البئر تعكيرا، لأنه أولا ليس لديه أدنى وضوح في الرؤية، وهو ثانيا يردد عبارات شائعة على ألسنة العامة، فتكون النتيجة أن يخرج المتفرج من هذا كله إما بفقدان الاهتمام بالموضوع، أو بمزيد من الاضطراب والتشوش.
في كل عام كانت برامج رمضان تحفل بهذه النوعية، لكنها لم تكن تقترب من السياسة، أما هذا العام فقد أصبحت السياسة بديلا عن حرب الشائعات بين الفنانين والفنانات، وهي الحرب التي وصلت إلى ذروتها في العام الماضي، وكانت إشارة مستترة لمحاولة إلهاء الناس عن قضايا باتت قريبة، أما وقد فرضت هذه القضايا نفسها فقد عادت الفضايات إلى سياسة الإلهاء، هذه المرة باستخدام القضايا الملحة ذاتها!
لا ندري على وجه اليقين إذا كان التكاثر الغريب لهذه البرامج فجأة على هذا النحو مصادفة أم تخطيطا، لكن المؤكد أنها "سهلة" جدا على عكس ما توحي به للوهلة الأولى، حتى لو كانت تستعين بديكورات بالغة الفخامة، أو بشاشات كومبيوتر عديدة وعملاقة كأنك في وكالة الفضاء الأمريكية (!!)، فكل ما يحتاجه الأمر هو مقعدان متقابلان، يجلس مقدم البرنامج في أحدهما، والضيف أو الضيفة في الآخر، ثم تتوالى الأسئلة المكررة، مع صدور مؤثرات صوتية مخيفة، أو ظهور مؤثرات بصرية خاطفة، عند هذه الجملة أو تلك، كأنك تشاهد فيلما من أفلام الرعب.
سوف نتوقف أمام بعض حلقات بعض هذه البرامج ونحاول أن نفهم، ربما أدركنا المغزى من تكاثرها الغامض. هناك مثلا برنامج "نصف الحقيقة" الذي تقدمه لميس الحديدي، والذي يقول في عناوينه هو أنه يدعوك إلى أن تتساءل: هل الضيف يقول نصف الحقيقة، أم كل الحقيقة، أو لا شيء من الحقيقة؟ وفي الحقيقة أن البرنامج لا يدعوك مطلقا إلى أن "تشغل عقلك" حتى تصل إلى إجابة. في إحدى حلقاته تظهر الكاتبة لميس جابر، التي اشتهرت فجأة بعد كتابتها مسلسل "الملك فاروق"، وبدت لنا في ثوب "المؤرخة". ومن المؤكد أن التاريخ ليس حكرا على أحد، وهناك من أساتذة التاريخ المحترفين من شوهوه، بينما كان هناك "هواة" تركوا بصمة لا تمحى، لعل أهمهم هو صبحي وحيدة صاحب كتاب "في المسألة المصرية". لكن الخطر في هذه الحالة هو أن يتم تقديم لميس جابر بوصفها "صاحبة التوكيل الرسمي للتأريخ"، بينما الحقيقة أنها تستند إلى مجلات ودوريات شائعة، وتُغرق المتفرج في قصص فرعية قد تبدو طريفة، لكي تُمرر وجهة نظر غير موضوعية، لعل من بينها النظرة المتعالية على الجماهير، وإلقاء اللوم عليهم بدلا من تحميل النظم السياسية مسئوليتها عن كبتهم، أو مثل وضع ستين عاما في تاريخ مصر منذ قيام ثورة يوليو حتى اليوم في سلة واحدة، دون النظر إلى الفروق الدقيقة بين مراحل هذه الفترة ذاتها.
هناك نوع آخر من التاريخ، يكتبه "نجوم" السياسة التليفزيونيون، وبرنامج "أنت وضميرك" الذي يقدمه الصحفي مجدي الجلاد يبرز في هذا المجال. تأمل مثلا الحلقة التي استضاف فيها المحامي المشهور مرتضى منصور، الذي أخذ يكرر "حواديته" عن خصومه السياسيين، بالتفاصيل التي لا تهم أحدا غيره، مع استخدامه لغة هي أقرب للغة رجل الشارع (وهو يفخر بذلك)، مع توجيه السهام في كل اتجاه، وإلقاء معلومات لا يعلم حقيقتها إلا الله، مثل العثور على "40 مليون جنيه في ميدان التحرير" خلال أحداث الثورة، وهو أمر لم يذكره مصدر آخر وليس عليه دليل واحد، لكن كما يقول المثل المصري: "العيار اللي ما يصيبش يدوش"، فقد لا تصيب الرصاصة التي تطلقها، لكنها على الأقل سوف تحدث انفجارا صوتيا مثيرا للرعب!!
استضاف نفس البرنامج الممثل الكوميدي طلعت زكريا، الذي اشتهر عنه إطلاق أقوال طائشة، من بينها أن المتظاهرين في ميدان التحرير كانوا يتعاطون المخدرات، ويمارسون علاقات مشبوهة. كان الغريب أن طلعت زكريا قد ضرب رقما قياسيا في الظهور في هذه البرامج، وهو أمر لم يحققه أكثر الثوار حماسا، ولعل هذا يشير لك إلى أين تحاول هذه البرامج أن تمضي، فالممثل الكوميدي يؤكد في كل مرة يظهر فيها أنه شاهد بعينيه هذه الظواهر الغريبة، وأن ميدان التحرير كان يحتشد بأناس يزورونه من أجل "الفسحة"، بينما لا توجد كلمة شافية واحدة – حتى لو كانت معارضة – عن الاحتجاجات ذاتها.
جاء طلعت زكريا بابنه عمرو أيضا ليشهد على صدق كلامه في برنامج "الشعب يريد" الذي يقدمه طوني خليفة، وهو البرنامج الأعقد في "شكله" من أقرانه، فهو يلعب بالديكور والإضاءة، وتتصاعد فيه الموسيقى المتوترة عند كلمات معينة، ناهيك عن طريقة مقدمه في محاصرة الضيوف حتى أنهم لا يجدون فرصة لإكمال جملة مفيدة واحدة. تأمل كيف يتم استخدام عبارة كانت شعارا في بلدان عديدة لتصبح عنوانا للبرنامج، الذي يردد فيه طلعت زكريا أن "المخدرات كانت بتتوزع في ميدان التحرير"!! وعندما تحين الفرصة لحديث سياسي أكثر جدية، مثل حلقة خالد يوسف، يقوم مقدم البرنامج بتشتيت أي فكرة فلا تكتمل أبدا.
قدمت المذيعة والممثلة ريهام سعيد برنامجا يُدعى "فاصل ونعود"، تقوم فكرته على إيهام الضيف بتوقف التصوير بينما يتم تسجيل الحوار معه، وهو ما يفترض أنه سوف يؤدي إلى انطلاقه في آراء صريحة قد لا يطلقها في الجزء المذاع، ولابد أنك تعرف بالطبع أنه مادام هذا الحوار "السري" قد أذيع فإن الضيف قد وافق عليه. قد تصلح هذه الفكرة مثلا لحوارات النميمة الفنية، مثل حلقة منة فضالي التي تفتخر بأنها "أكثر من يصدر عنه الشائعات"، لكن أن يمتد ذلك إلى السياسة فإن الأمر يتحول إلى هزل كامل، كما في حلقة المؤلف الموسيقي عمرو مصطفى، الذي يقول أنه قدم لمصر إنجازات أهم من نجيب محفوظ وأحمد زويل. من جانب آخر فإنه يعطي المتفرجين درسا في ألا يصدقوا إلا ما هو "صوت وصورة"، وعندما يصطدم ببعض هذه الأصوات والصور يقول أنها تلفيق ناتج عن استخدام "الفوتوشوب"!!
ليس هناك أي جديد في برنامج هبة الأباصيري "كش ملك"، بل إن هذا العنوان ذاته لا يعني أي شيء، فالحكاية كلها إعادة لنفس الحوارات الفنية التي سبق لك رؤيتها في أعوام سابقة، مع الاتجاه أحيانا لبعض آراء هذا الفنان أو هذه الفنانة فيما يجري من أمور، دون أن تكون لهذه الآراء قيمة حقيقية. على النقيض يأتي برنامج الممثلة بسمة "من أنتم؟" الذي يحاكي في شكله مواجهات برنامج "الاتجاه المعاكس"، لكن مقدمة البرنامج هنا تفتقد الخبرة والمعرفة التي تؤهلها لأن تتحكم في مجريات الحوار. وقد تأتي بعض الحلقات ساخنة مثل حلقة تامر أمين ووائل الإبراشي، لكن الطابع العام يظل مرتبطا بقدر غير قليل من الخفة. إنها تستضيف مثلا الممثلة عفاف شعيب، التي كانت سببا في إثارة بعض الانتقادات التي لا تخلو من سخرية، لتصريحها بأن الشعب المصري كان يعاني من أزمة خلال المظاهرات لعدم توفر الكباب والكفتة والبيتزا، وبعيدا عن هذا الموضوع فإنها كررت مرة أخرى أنها علمت من أقاربها في أمريكا ولندن (هكذا) أن هناك مؤامرة ضد مصر، لأنها "أكبر بلد في العالم"، وهذه المؤامرة هي تدريب جنود أجانب على التحدث بالعامية المصرية، وإنزالهم الشوارع لاختطاف الدبابات!!
لعلك تبتسم الآن ياعزيزي القارئ، وهذا هو بالفعل ماأثار بعض برامج أخرى قائمة على السخرية، ربما نتوقف عندها في مقال قادم، لكن ما يثير المرء حقا هو أنه إذا كانت برامج الفضائيات في رمضان هذا العام قد قررت أن تناقش السياسة، فلماذا لم تفكر لحظة واحدة في أن تضفي على هذه البرامج عمقا وجدية؟ أم أن تحويلها إلى الخفة والاستخفاف كان مقصودا، بهدف اللعب في الدماغ؟
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment