Wednesday, August 17, 2011

الكبير أوي الضحك من غير سبب ليس دائما قلة أدب


أحيانا ما يتعامل النقد مع الأعمال الكوميدية بمنطق الاستخفاف، وينظر لها على أنها لا ترقى لمستوى النقد، وغالبا يكون السبب الرئيسي في ذلك أن النقد يتعامل أساسا مع المضمون، بينما يهمل الشكل أو يتجاهله ويجهله. فأغلب المقالات النقدية تبدأ بعبارة: "هذا العمل يتناول ..."، فإذا كان هذا الذي يتناوله العمل الفني جادا في مظهره أصبح في عرف الناقد جديرا بالاحترام، حتى لو كانت المعالجة هزيلة. وهناك أمثلة عديدة هذه الأيام لأعمال الفنية ضعيفة، لكنها تختفي وراء الزعم بمعالجة قضية جادة، وذلك في الحقيقة أخطر من ألا يتناول العمل مثل تلك القضايا أصلا، فغايته في هذه الحالة تكون هي الضحك بمعناه البسيط، وهو إن لم ينفع لا يضر، وذلك تماما هو حال المسلسل التليفزيوني "الكبير أوي"، الذي يأتي هذا العام جزأه الثاني ليحقق نسبة عالية في المشاهدة.
أثار حيرتي في البداية نجاح هذا المسلسل "الخفيف"، بين الكبار أو الأطفال على السواء، وأهملته بعض الوقت لكن تزايد النجاح جعلني أقترب منه بالتحليل، فإذا بي بالفعل أمام عمل قد يبدو للوهلة الأولى سهلا، لكنه يحتاج إلى جهد كبير في التنفيذ، وصياغة دقيقة رقيقة للعناصر الدرامية والبصرية معا، لأنه يستفيد كثيرا من ثقافة سينمائية وتليفزيونية واسعة، عربية وغرببة على السواء، وهذا في رأيي أحد أسباب نجاحه، فنكاته تشبه نكات أفلام التحريك الأمريكية المعاصرة، التي تحتوي على مستويين، الأول مباشر يخاطب الأطفال، والثاني موجه للكبار أصحاب قدر من الثقافة يسمح لهم بإدراك الأبعاد التي تفوت على من لا يملكها.
دعنا في البداية نلقِ نظرة على البناء العام للمسلسل الذي كتب فكرته وقام ببطولته أحمد مكي: هناك رجل صعيدي يدعى "الكبير قوي" يعمل عمدة لقرية تسمى "المزاريطة"، يفاجأ أن له شقيقا توأما تربى في أمريكا ويحمل اسم "جوني"، ويظهر جوني ذات يوم ليعيش في القرية أيضا، وهنا تتصادم الثقافات المتباينة تصادما مضحكا، خاصة أن القرية تحمل أحيانا ظلالا رمزية من فكرة "الوطن". إن هذا التصادم يميل أحيانا إلى السخرية من "الخواجة"، لكنه يوجه سهام نقده أيضا للعمدة الصعيدي، فالمسلسل لا يقع في مأزق الانحياز لأيهما، أو السخرية الفجة من الصعيدي مثلما فعلت أعمال أخرى كانت مجرد نكات جامحة من ذلك النوع الذي يتداوله الناس في حياتهم اليومية.
بالطبع يلعب أحمد مكي دوري الشقيقين، بينما يكتب السيناريو والحوار كل من مصطفى صقر ومحمد عز الدين وتامر نادي، ويتناوب على الإخراج إسلام خيري وأحمد الجندي. لكنك تستطيع أن تلمس تأثير أحمد مكي في كل التفاصيل، خاصة اختيار فريق الممثلين الذين يعملون معه دائما، ويشكلون بالفعل فريقا متجانسا يجيد الأداء على نحو يندر أن تجده في أعمالنا الفنية المعاصرة، لا فرق في ذلك بين ممثل رئيسي أو "كومبارس" يلقي جملة حوار واحدة، خاصة أن العمل يقتضي في بعض الحلقات استخدام مجاميع هائلة، مثل الحلقات الثلاث التي تحدثت عن قدوم فريق كرة قدم أمريكية إلى القرية، في تنافس يحمل بعض دلالات وطنية.
في تلك الحلقات – كمجرد مثال – نموذج على أسلوب المسلسل كله: فهناك تأثر واضح بأفلام الألعاب الرياضية الأمريكية، حيث يأتي التحدي من فريق كرة قدم أمريكية فلا يجد البطل مناصا من قبوله لأنه يمس شرفه، وهو هنا الشقيق جوني، فإذا به يجمع مجموعة من البسطاء الذين لا يعرفون بالطبع شيئا عن هذه اللعبة، لذلك فهم يبدأون من الصفر أو ما هو دونه، وعندما يبدو الأمل ضعيفا يظهر شخص يملك قدرات خاصة، وهو هنا لص يدعى "القطر" (أي القطار)، سريع العدو بحيث لا يستطيع أحد اللحاق به، ويأتي يوم النزال، ويتجمع أهل القرية جميعا على نحو فريد، وأعتقد أن صناع المسلسل بذلوا جهدا فائقا في تصوير هذه المباراة، ولعل ذلك استغرق منهم يوما كاملا لالتقاط العديد من اللقطات العفوية لكي يمكن فيما بعد تجميعها في المونتاج.
وكعادة أفلام الرياضة ينهزم في البداية فريق البطل جوني، بينما يجلس الشقيق الكبير قوي في المدرجات متخفيا لأنه يعتبر الاشتراك في هذه اللعبة عارا. وينزل "القطر" إلى الملعب ليحمل بعض الأمل للفريق المهزوم، لكنه يصاب ليضيع هذا الأمل، وهنا يقرر الكبير قوي أن ينزل إلى أرض الملعب ليشترك مع شقيقه في الدفاع عن شرف القرية، وعندما يتحقق الانتصار الصعب نرى على الشاشة تقليدا ساخرا من طريقة التليفزيون المصري في الاحتفال بتلك الانتصارات الرياضية في مبالغة مضحكة.
من أهم سمات "الكبير أوي" أنه يوزع سخرياته بجدية بالغة، فهو لا يميل أبدا للتهريج في التمثيل الذي أصبح من علامات هذا الفن في مصر في الآونة الأخيرة، خاصة فيما عرف باسم "كوميديا الموقف" أو "السيتكوم"، وبلغ هذا التهريج ذروته العام الماضي في مسلسل "عايزة أتجوز" وأصبح الجميع يقلدونه، لكن "الكبير أوي" يحافظ على الشعرة الدقيقة الفاصلة بين الجد والهزل، ولعل هذا هو السبب في أن الممثلين يحققون هنا درجة عالية من الإتقان والإقناع، نذكر من بينهم دنيا سمير غانم في دور هدية زوجة الكبير قوي، أو هشام اسماعيل في دور الخفير فزّاع، أو محمد شاهين في دور توماس صديق جوني ومساعده.
لا يبتعد "الكبير أوي" في بنائه العام عن كوميديا الموقف أيضا، فقد تأتي كل حلقة منفصلة بذاتها، أو تتجمع حلقتان أو ثلاث معا في حكاية واحدة. وهذا البناء يسمح لصناع المسلسل باستضافة بعض الممثلين المشهورين في بعض الحلقات، كما يسمح لهم أيضا بأن ينتقلوا في الزمان والمكان، حتى أن هناك بعض الحلقات تمضي إلى الماضي لتحكي عن نزوات الأب المضحكة في شبابه. هناك سمة أخرى لا تقل أهمية، وهي أن المسلسل لا يقع في الثرثرة المملة التي تهدف إلى التطويل بأي ثمن، وجرب مثلا أن تفوت جزءا من بداية حلقة ما وسوف تكتشف أنه قد فاتك الكثير، ففي قسم عرض المعلومات الرئيسة تشعر بتدفق الإيقاع السريع سواء في الأحداث أو الحوار، كما أن المشاهد الطويلة نسبيا تعمد على الفور إلى استخدام المونتاج لخلق هذا الإيقاع.
غير أن السمة الأهم هي الاعتماد على السخرية من أعمال سابقة. تأمل مثلا الحلقة التي شك فيها الكبير قوي في أن توماس جاسوس، بسبب أسئلته الفضولية وتصويره لأماكن عديدة في القرية، فيذهب بطلنا إلى المخابرات المصرية، حيث يجد ضابطا هو ابن الضابط الذي كان مسئولا عن رأفت الهجان، ويقلد يوسف شعبان الذي قام بهذا الدور!! ولتلاحظ أيضا التناقض بين منطوق بعض جمل الحوار ومضمونها، إن الضابط يقول للكبير: "خد راحتك كأنك بتكلم واحد صاحبك"، بينما يشي الأداء بالتهديد والوعيد!!
في حلقة أخرى يصبح هدف السخرية هو الفيلم الأمريكي "تبديل الوجوه"، الذي قام فيه المجرم جون ترافولتا بسرقة وجه نيكولاس كيدج، فلم يجد هذا الأخير إلا أن يكتسي بوجه الأول ليمضي الفيلم في مفارقات تحتشد بالتشويق و"الأكشن"، أما هنا فإن الكبير يشاهد الفيلم قبل نومه فيحلم بكابوس يرى فيه تبديل الوجوه مع شقيقه جوني، وتتصاعد المفارقات حتى أن الجميع في القرية يبدلون وجوههم مع بعضهم البعض.
تعتمد مثل هذه المحاكاة هنا على إدراك التفاصيل السينمائية والبصرية وليس مجرد البناء العام للحبكة فقط، لذلك فإن "المتعة" في مشاهدة "الكبير أوي" قد تتوقف بالنسبة لبعض المتفرجين عند الضحك، لكنها تمتد عند البعض الآخر إلى إدراك التشابه مع الأعمال التي يتم السخرية منها، وإلى دقة التنفيذ التليفزيوني التي يمكن أن تجد لها مثالا في مشهد يودع جوني والكبير فيه كل منهما الآخر حتى أنهما يحتصنان، وإذا أتيحت لك فرصة مشاهدة هذا المشهد مرة أخرى فسوف يدهشك براعة المونتاج واستخدام "الدوبلير" في وقت واحد.
في سياق من التوترات ذات المستويات العديدة يأتي مسلسل "الكبير أوي" ليمنح المتفرج بعضا من لحظات اللهو البريء النظيف، وذلك هدف يستحق العناء بالفعل، وصل إليه صناع المسلسل بالكثير من الجهد، فاستحقوا نجاحا جماهيريا، وليثبتوا أن الضحك من غير سبب ليس دائما قلة أدب!!

1 comment:

Om Dalila said...

ما اهو ده اللى بيطلق عليه اعادة الاستخدام أو التدوير فى الفن و هو من سمات ما بعد الحداثة فى الفن، بمعنى ان الفن يستوعب تاريخه و تراثه و يعيد استخدامه بقدر فيه الكثير من اللعب و التلاعب مع المشاهد اللى من المفترض يكون واعى بهذه العملية و مشارك للمبدع الفهم او السخرية من وراء الستار. المقال جميل و المسلسل فعلا يدرس التفاصيل احيانا بشكل مدهش و يغلف كل ذلك بالضحك