Thursday, July 07, 2011

النقابات الفنية في مصر البحث عن معنى



وسط الفورة التي خلقتها الثورة المصرية منذ يناير الماضي، تصاعدت مطالب مشروعة للعديد من النقابات الفنية في مصر لتحسين أدائها، وقيل الكثير عن ولاء من يتولون أمور هذه النقابات للسلطة السابقة، مثل أشرف زكي نقيب الممثلين، أو مسعد فودة نقيب السينمائيين. وربما كان الرد الجاهز عند هؤلاء أن علاقتهم الجيدة بالسلطة هي التي تتيح لهم تسيير أمور النقابة، وبرغم أن هذا القول يعكس مفهوما مغلوطا لمعنى ودور أي نقابة، التي يجب أن تستمد قوتها وتأثيرها الحقيقيين من استقلالها الكامل عن أية سلطة رسمية، بل الوقوف أحيانا في وجه هذه السلطة، فإن المطالبين بتغيير النقباء الحاليين يرتكبون الخطأ ذاته حين يلجأون لوزير الثقافة لكي "يأمر" بإجراء الانتخابات في بعض هذه النقابات!!
إنك إن تأملت الأمر لوجدت أن ذلك ينزع عن النقابة الفنية أبسط مهامها وحقوقها، فليست هناك سلطة لوزير على نقابة شكلها أبناء مهنة ما لترعى حقوقهم وتدافع عنها، وعلى سبيل المثال فإن من المفترض أو من الواجب ألا يكون لوزير الصحة تدخل في نقابة الأطباء، ولا لوزير العدل القدرة على فرض رأي على نقابة المحامين. وإذا كانت نقابة السينمائيين مثلا تريد إجراء انتخابات – حتى قبل موعدها – فإنه يكفي أن يكون هناك اجتماع عام لأبنائها يقررون فيه ذلك، لكن اللجوء إلى وزير الثقافة (ولا داعي للإشارة إلى أنه لم يثبت حتى القدرة على التحكم الجاد في شئون وزارته) لكي يكون حَكَما في شئون النقابة، فهذا يثبت أن مفهوم النقابة نفسه يعاني تشوشا في ذهن أغلب أعضائها.
لماذا – مثلا - لم نسأل أنفسنا يوما ما هو الدور الحقيقي للنقابة والنقيب، أو لماذا لم نتأمل الحصاد الذي جلبه شخص ما خلال فترة توليه المسئولية؟ وما زالت هذه النقابات في مصر تعمل بدوافع شخصية تماما، وانظر مثلا كيف كان يوسف شعبان عاملا مشتركا في كل مسلسلات التليفزيون عندما كان نقيبا للممثلين، ثم غاب عن الأضواء أو كاد حين ترك المنصب، وهو ما حدث وسوف يحدث مع أشرف زكي، لتدرك أن هذا كان في جانب منه تأكيدا على علاقة النقيب بالمنتجين الذين يمولون هذه المسلسلات، فلا تسأل عندئذ إذا كان سوف يقف بحق إلى جانب أبناء النقابة الذين قد تتعارض مصالحهم مع هؤلاء المنتجين أنفسهم.
وحتى لا يصبح حديثنا مجردا أو نظريا، سوف أتوقف بك الآن عند أحد الأمثلة المهمة، وهو "نقابة ممثلي الشاشة" في أمريكا، وأرجو أن تقوم بالمقارنة بنفسك مع ما يحدث عندنا. لكن دعني في البداية أضع معك تعريفا بسيطا لفكرة النقابة، فكل عمل يتألف من عامل وصاحب عمل، ومن يملك سلطة الأمر والنهي في هذه العلاقة يكون دائما هم من يملك المال، وإذا اعترض العامل مثلا على أجره المتواضع فإن صاحب العمل يمكنه أن يصرفه لأنه يعرف أن هناك "طابورا" طويلا من العمال العاطلين الذين بنتظرون فرصة للعمل، وسوف يرضون بالأجر الهزيل. ماذا إذن لو كان هناك تجمع ما يجمع بين هؤلاء العمال، يضع حدا أدنى لا يمكن للأجر أن يقل عنه؟ عندئذ لن "يزايد" أبناء المهنة الواحدة على تقليل أجورهم، ولن يجد صاحب العمل فرصة للضغط على العامل لكي يقبل بشروط متدنية، وتلك ببساطة هي المهمة الأولى للنقابة.
الهدف الرئيسي إذن لنقابة الممثلين هو تحسين أوضاع الممثلين، لا فرق في ذلك بين نجم أجره وصل إلى الملايين، و"كومبارس" صامت لا يجد سوى قوت يومه، بل إن هذا الأخير هو الأهم، ففي نقابة ممثلي الشاشة في أمريكا (التي تضم ممثلي السينما والتليفزيون) هناك مائتا ألف ممثل، وهو ما يعني أن الممثل الصغير معرض دوما لشروط عمل متدنية، لأن هناك مئات غيره ينتظرون عملا إذا أبدى هو تذمرا. لكن تأمل كيف سارت الأمور في عام 2000، حين قررت النقابة إضرابا عن العمل تماما، كان الأطول في تاريخها إذ استمر ستة أسابيع كاملة، وكان من المثير أن النجوم جميعا، وعلى رأسهم جورج كلوني ومورجان فريمان وجيف بريدجز وجوليا روبرتس، أعلنوا عن تضامنهم مع الممثلين الصغار، ووقفت شركات الإنتاج عن العمل، حتى رضخ المنتجون للمطالب.
أعتقد أنك سوف تبتسم عندما تعرف هذه المطالب، التي سوف تبدو لنا – بالمقارنة مع الحال عندنا – نوعا من الرفاهية الزائدة: لقد كان الممثلون (خاصة ممثلي الإعلانات!!) يرون أن جزءا كبيرا من حقهم يضيع عندما يصورون إعلانا، يأخذون عنه أجرا واحدا، بينما يذاع الإعلان على شاشات التليفزيون وقنوات "الكيبل" وعبر الإنترنيت آلاف المرات، لذلك فإنهم رأوا أن من حقهم أجرا عن كل مرة يذاع فيها الإعلان، وحصلوا على هذا الحق بالفعل!!
حدث ذلك لأن النقابة وأبناءها وقفوا صفا واحدا، كبيرهم وصغيرهم، ولأن النقابة تدرك أن دورها هو الضغط لصالح أبنائها لتحسين ظروفهم. لكن النقابات الفنية المصرية تتعامل مع هذا الأمر كأنه من باب "الصدقات" (!!)، وأرجو أن تتأمل على سبيل المثال كيف تنشر هذه النقابة أو تلك أخبارا عن معاش أو نفقات علاج للممثل أو الفنان كأنه نوع من المعونة. وقد تكون النقابة "معذورة" لقلة مواردها، لكنها ليست معذورة أبدا في فهمها القاصر لدورها وسلطاتها، ومعظم هذه النقابات تعتمد على اشتراكات الأعضاء الهزيلة، أو الرسوم الباهظة التي تفرضها على الممثلين من غير أعضائها، لكنك لا تدري أبدا لماذا لم يضع من يديرونها في حسابهم أن يخوضوا حربا عادلة بحق، للحصول على "حق الأداء العلني" الذي أصبح جزءا من "الاتفاقية العالمية لحماية الملكية الفكرية" (التريبس)، وهي الاتفاقية التي تستخدمها الدول الكبرى الآن في مفاوضاتها للضغط على الدول الصغرى في الأمور السياسية.
والأمر ليس مجرد شعارات مرفوعة يستخدمها شخص ما لأغراض انتخابية، ثم ينساها أم يتناساها، لكنه يحتاج بالفعل إلى من يدرسون هذا الأمر وغيره داخل النقابات ويصبحون متخصصين فيه وتصبح تلك مهمتهم. وإذا كان هذا غائبا عن نقابة الممثلين أو السينمائيين في مصر، فالأمر أفدح فيما هو أبسط من ذلك. فمن يسمى "المستشار القانوني" للنقابة يقتصر دوره على المنازعات أمام المحاكم، لكن هناك دورا أسبق يجب التوقف عنده، وهو أن تضع النقابة أبناءها في موقف قانوني قوي منذ البداية، لا أن تتركهم لأصحاب شركات الإنتاج "وكل واحد ونصيبه"!! هل تدري نقابة الممثلين المصرية مثلا أن هناك صيغة تعاقد واحدة تضعها نقابة ممثلي الشاشة الأمريكية بحيث لا يمكن الخروج عليها؟ والأهم هو ما تتضمنه هذه العقود.
إنها تشترط مثلا منع التعاقدات الإجبارية طويلة الأجل، لأن ذلك يجعل الممثل في موضع "العبودية" أمام الشركة المنتجة. وبالإضافة إلى تحديد الحدود الدنيا للأجور فإن هناك تحديدا لساعات العمل اليومية والأجازات الأسبوعية الإجبارية، وما يخرج على ذلك يستحق أجرا مضاعفا. وتصل التفاصيل إلى تحديد ساعات الراحة، وتناول الطعام، وتوفير الشركة المنتجة للمأكل والمشرب، وأماكن الراحة وتغيير الملابس وتحضير الماكياج، والاستعداد بوسائل العلاج المناسبة في موقع التصوير، ناهيك بالطبع عن تدبير وسائل الوصول لهذا الموقع.
تتابع نقابة ممثلي الشاشة في أمريكا أبناءها وترعى مصالحهم على نحو فيه أبعاد سياسية واقتصادية ناضجة، فهي تشترط عدم التمييز بين الممثلين على أساس الجنس أو العِرْق أو نوع العمل أو درجة الشهرة، وهي تقيم دورات تدريبية لأعضائها الجدد، وتقيم صلات دائمة بوكلاء الفنانين وشركات الإنتاج حتى تدبر عملا (أو حتى اختبار أداء) لكل أعضائها. وهي في النهاية تقيم حفلا سنويا توزع فيه الجوائز على من يستحق من الممثلين، وتصبح هذه الجوائز في الأغلب مؤشرا على النتائج المقبلة للأوسكار.
وإذا كنا قد ضرينا مثلا بنقابة ممثلي الشاشة في أمريكا، فلكي نقول ببساطة أنه ليس علينا أن نخترع العجلة من جديد، كما نفعل للأسف في الكثير من أمور حياتنا. لن يستغرق الأمر إلا بعض الوقت في الدراسة الجادة لتجارب الآخرين، مثل ضرورة أن تكون هناك مثلا نقابات فرعية للتخصصات السينمائية المختلفة (مديري التصوير، فناني المونتاج، مصممي الديكور، إلخ)، بدلا من الوضع الغريب الذي يضم في نقابة السينمائيين المصريين من لا يمكن جمعهم في نقابة واحدة. والمحك في هذا كله ليس أن يطمح هذا الشخص أو ذاك إلى أن يكون نقيبا، أو أن يستخدم عبارات رنانة لا تعني في النهاية شيئا محددا، بل أن نطرح جميعا شكل النقابة، ودورها، ومعناها، للمناقشة، وهذا ليس لمجرد إصلاح الأحوال المالية لأبناء هذه النقابة أو تلك، بل حتى يكون لدينا سينما بحق، وفنون بالمعنى الجاد للكلمة.

No comments: