أفلام ثلاثة عن جوهر الشعر فى الحياة
من مآسى المناهج الدراسية التى تعلمنا بها السينما،
واختفت من العالم كله الآن، لكنها ما تزال تلقى بثقلها علينا، تلك التقسيمات
والتعريفات العشوائية لما أسميناه "أنواع السينما" أو تصنيفاتها، وكان
من أهم هذه التصنيفات التفريق الحاد بين ما هو روائى وغير روائى، وهذا الأخير
تندرج تحته السينما التى عرفناها بالتسجيلية. لكن مع نظريات السينما المختلفة فى
العالم كله خلال العقد الأخير، كادت هذه التقسيمات أن تختفى فى تعريفاتها
التقليدية، مع التأكيد على عنصر جوهرى فى كل سينما وأى سينما، هو أن لها قدرة على
"التسجيل".
إن كل ما تراه على الشاشة يحيلك إلى حقيقة
"واقعية" ما، حتى لو بلغت أقصى درجات الخيال، ومن هنا أدرك بعض
السينمائيين أنه حتى السينما الروائية تكتسب سمة تسجيلية وواقعية، ونحن جميعا نستخدم
شخصيات سينمائية رأيناها على الشاشة كأننا عرفناها حقا فى واقع الحياة. لكن أرجو
منذ البداية ألا يختلط الأمر بالنسبة إليك مع المشروعات السينمائية المقصود منها
أن تلد حلقات ممتدة، مثل سلسلة "جيمس بوند"، أو أن يتم استثمار نجاح
فيلم ما لصنع حلقة تالية، على طريقة "عفريت سمارة"!
إننى أعنى هنا هو أن شخصيات سينمائية يصبح لها وجود
واقعى، لذلك فإنها يمكن أن تعاود الظهور بعد سنوات كأنها عاشت تلك السنوات فى
الحياة، واكتسبت خبرات جديدة، بما يجعلها تتساءل عن حصاد الماضى وتوقعات المستقبل.
لكن ذلك لن يتحقق أيضا إلا إذا كانت هذه الشخصيات السينمائية قد رُسمت برهافة
واقعية بالغة، وهذا ما حدث مع "ثلاثية" المخرج الأمريكى ريتشارد
لينكليتر، الذى لم يكن فى ذهنه عند بدايتها أن تصبح كذلك، فبعد تسع سنوات من
الفيلم الأول سأل نفسه عما يمكن أن يكون قد حدث لشخصيات الفيلم ليصنع فيلما ثانيا،
وبعد تسع سنوات أخرى طرح السؤال مرة أخرى ليصنع فيلما ثالثا.
تبدأ الحكاية فى عام 1995، مع فيلم "قبل الشروق":
الفتى الأمريكى جيسى (إيثان هوك) والفتاة الفرنسية سيلين (جولى ديلبى) يتقابلان فى
قطار خلال رحلة إلى فيينا، التى يتوقفان فيها بشكل عابر، ويمضيان الليلة يتجولان
خلالها، قبل أن يفترقا على محطة القطار قبل الشروق، وقد تواعدا على اللقاء فى
المكان ذاته بعد ستة شهور، دون أن يتبادلا معلومات أخرى عن كل منهما. لقد كان من
الممكن للفيلم أن يكون فيلما رومانسيا آخر يشبه كثيرا من الأفلام، لكن كتابة
لينكليتر للسيناريو (بالاشتراك مع الكاتبة كيم كريزان) أضفت حياة حقيقية على
الشخصيتين، وتركت المتفرجين يتساءلون عما إذا كان سوف يتحقق هذا اللقاء.
سوف نعرف فى الفيلم الثانى "قبل الغروب"، بعد
تسع سنوات، أن اللقاء لم يتحقق بسبب وفاة جدة سيلين المفاجئة، مما منعها من
الحضور، وها هما اليوم يلتقيان مرة أخرى فى باريس، وقد أصبح جيسى كاتبا للروايات، وليس
أمامه سوى ساعات قليلة قبل عودته إلى أمريكا، لذلك فإن لقاءه مع سيلين، التى عرفت
بأخباره من الصحف، لن يستغرق أيضا سوى نهار يوم واحد، يقضيانه هذه المرة متجولين
فى أنحاء باريس، ليحكى كل منهما للآخر عما حدث له خلال الأعوام التى انقضت، ثم
يفترقان قبل الغروب. أما فى الجزء الثالث "قبل منتصف الليل"، فيأتى أيضا
بعد تسع سنوات أخرى وقد تزوجا، وهما يقضيان معا أجازة فى جزيرة يونانية، ليتوقف
الفيلم بهما أمام فترة ما بعد الظهيرة من أحد الأيام، حيث يتبادلان مراجعة للماضى،
تبدو فيها سيلين وكأنها تشعر أن جيسى قد فتر حبه لها، وتقرر الفراق، لولا أن يبدى
لها عاطفة دافئة وصادقة، تجعلهما يتوافقان مرة أخرى قبل أن يحل منتصف اللسل.
فى هذه الأفلام جميعا تكتسب الشخصيتان حياة حقيقية، حتى
أن الممثل إيثان هوك والممثلة جولى ديلبى سوف يشتركان فى كتابة سيناريو وحوار
الجزأين الثانى والثالث، وتصبح الثلاثية (ولا ندرى إذا ما كان هناك فيلم رابع بعد
تسع سنوات قادمة) تسجيلا لمراحل مختلفة من الحياة، من ريعان الشباب حتى تجاوز
مرحلة منتصف العمر. لكن الأهم فى هذه الأفلام، بالإضافة إلى هذه السمة التسجيلية
فى فيلم روائى، هو أن الحياة لا تكشف عن نفسها من خلال أحداث درامية عنيفة على
الطريقة الأمريكية، بل إن الأفلام تكتسب مسحة أوربية تذكرك كثيرا بأفلام الفرنسى
إيريك رومير التى تعتمد تماما على الحوار (دون أن يتهمها البعض على طريقة بعض
نقادنا بأنها ليست سينما "خالصة")، كما تذكرك أيضا بأفلام فرنسى آخر هو
فرانسوا تروفو، الذى صنع سلسلة من الأفلام تكاد أن تشكل سيرة ذاتية له، مع الممثل
جان بيير لو، منذ مراهقته حتى تجاوزه مرحلة الشباب.
أخيرا، ومن المفارقات الساخرة المريرة، أن الفيلم الثانى
"قبل الغروب" لم يتكلف سوى مليونين من الدولارات، أى أقل كثيرا من أفلام
عادل إمام أو محمد سعد أو من شئت من "نجومنا" (أضع الكلمة بين قوسين
لتحفظى عليها)، ناهيك عن أن الأفلام الثلاثة تم تصويرها فى مشاهد خارجية، وبتتابع
كتابتها فى السيناريو حتى يمسك الممثل بالشخصية، ومن خلال اللقطات الطويلة زمنيا
(زاد بعضها عن عشر دقائق)، مما يعنى تمكنا هائلا من الممثلين لتفاصيل الشخصيتين،
وقدرتهما على الارتجال "داخل الشخصية"، وقدرة المخرج أيضا على اقتناص
لحظة الارتجال.
ربما تنبعث حالة من الشجن بسبب تلك الهوة التى لا
يمكن تخيل فداحتها، بين إدراك هذه الإمكانية الحقيقية للسينما، وبين ما نفعله نحن
بها، لأننا ما زلنا نتعامل معها كأنها أشبه بصندوق الدنيا، أو عروض الأراجوز.
No comments:
Post a Comment