يستخدم مصطلح "الأزمة" عادة لوصف حالة عارضة
طارئة، فيها معاناة مؤلمة من التراجع والركود، أو حتى الاختناق، لكن ماذا لو
استمرت هذه الأزمة طويلا، حتى أنها أصبحت هى القاعدة، والخروج منها هو الاستثناء؟
تلك بالضبط حالة "صناعة" السينما المصرية،
وأضع هنا كلمة صناعة بين قوسين، لأن تلك من أهم خصائص الفن السابع، فهو إنتاج
لسلعة (هى الفيلم فى هذه الحالة)، وترويج لها، بشرط أن تدر هذه السلعة لصانعيها
ربحا يضمن لهم الاستمرار، لكن الشرط الأهم هو أن تلبى السلعة احتياجا ملحا
للزبائن، رواد دور العرض السينمائى.
فهل كانت السينما المصرية طوال تاريخها تراعى هذه
الشروط؟ فى الحقيقة أنها لم تكن بعيدة عنها، إلا فى شرطها الأخير، وهو تلبية حاجة
حقيقية لدى الجمهور، وعندما يتحقق ذلك فإنه يحدث بمحض الصدفة، حين ينجح فيلم من
نوعية ما، فينشغل صناع الأفلام بصنع نسخ أخرى من هذه النوعية، دون أن ينجحوا مرة
واحدة فى التنبؤ بها، أو فى إدراك أنها قد باتت لدى الجمهور أمرا يثير الملل. وليس
ببعيد عنا موضة نقل كوميديا المسرح التجارى إلى السينما فى أواخر التسعينيات، فيما
عرف بالمصطلح المبتذل "المضحكون الجدد"، وظلت السينما المصرية سجينة
لهذا النوع من الأفلام، حتى بعد أن ابتعد عنها الجمهور وانصرف إلى نوعية أخرى من
الأفلام، بمحض الصدفة أيضا.
هذا بالضبط هو حال السينما المصرية كصناعة، وأرجو أن
تدلنى على أسماء منتجين سينمائيين استمروا فى السوق (إلا استثناءين أو ثلاثة) منذ
ثلاثة عقود، وهى الفترة التى شهدت وجود أصحاب أموال عابرين، جربوا حظهم فى السينما
لهدف ما (بعضه لا نستطيع ذكره هنا)، وعندما عاشت السينما أزمتها الطويلة، جمعوا
أموالهم وذهبوا إلى سوق جديدة ببضاعة جديدة، دون أن يساورهم أى إحساس بالأسى على
صناعة، من أهم خصائصها الاستمرار، سواء فى فترات الانحدار أو الازدهار.
ذلك الرأسمال العابر هو السبب الحقيقى فى أزمة السينما
المصرية المزمنة منذ عقود، وهو رأسمال يفتقر إلى أى رؤية رأسمالية حقيقية وصادقة
مع نفسها. فمن طبيعة الرأسمالية (المعاصرة خاصة) أن تكون "مرنة" بما
يكفى، أو أن "تجدد نفسها" بتعبير الدكتور فؤاد مرسى، ولعل أهم الأمثلة
على ذلك هو ما فعلته هوليوود خلال الخمسينيات، حين اندثرت "هوليوود
القديمة"، وعانت صناعة السينما الأمريكية من أزمة طاحنة، لأسباب عديدة منها
حكم المحكمة العليا بأن توقف الشركات السينمائية الكبرى ممارساتها الاحتكارية،
والقبضة الماكارثية التى وضعت عشرات الفنانين السينمائيين فى "قائمة
سوداء" لتمنع الشركات من التعامل معهم، لكن التأثير السلبى الأخطر آنذاك جاء
من التليفزيون، الذى سحب البساط من تحت أقدام صناعة السينما، ونجح فى أن يسرق
جمهورها، الذى اختار أن يبقى فى المنزل للفرجة على البرامج التليفزيونية، بدلا من
الذهاب إلى السينما.
وكان السؤال الذى طرحته هوليوود على نفسها: كيف ندفع هذا
الجمهور لمغادرة أريكته، والعودة إلى دور العرض مرة أخرى. وكانت الإجابة فى أفلام
تتيح "فرجة" لا يستطيع التليفزيون تقديمها فى تلك الأيام، فعاد الاهتمام
بتطوير تقنية الألوان بدلا من الأبيض والأسود، والعرض على شاشة عريضة، وظهور موجة
جارفة من الأفلام الغنائية الراقصة، بالإضافة إلى أنماط فيلمية "مبهرة"
أخرى، مثل أفلام الخيال العلمى. بل ذهبت هوليوود إلى مدى أبعد، عندما فكرت فى أن
تعرض أفلامها فيما يشبه مواقف السيارات، فإذا كان "الزبون" لا يريد
مغادرة سيارته فسوف نتيح له ذلك، بل سوف نقدم له أيضا المأكولات والمشروبات التى
تجعله فى حالة أشبه بالاسترخاء فى منزله على أريكته.
ثم اكتشفت هوليوود فيما بعد أن من الممكن أن تجعل من
عدوها – التليفزيون – صديقا، وأصبحت شاشة التليفزيون تمثل فرصة جديدة لعرض الأفلام
القديمة، وقد تحقق نجاحا غير مسبوق أيضا، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك فيلم
"إنها حياة جميلة"، الذى لم يلق نجاحا فى أوان عرضه الأول فى دور العرض فى
عام 1946، ليصبح فيما بعد من الأفلام الثابتة التى تعرض فى "الكريسماس"
كل عام، على عشرات القنوات التليفزيونية. وشيئا فشيئا أدركت هوليوود أن بإمكانها
أيضا إنتاج البرامج التليفزيونية، كما اكتشف التليفزيون أن من المفيد تماما له أن
يشارك فى إنتاج الأفلام، ليحصد الأرباح أولا فى دور العرض، ليمتلك بعدها حقوق عرض
الفيلم على شاشته. وإنك لو تأملت "تيترات" الأفلام اليوم، لرأيت أسماء عدد غير قليل من الشبكات التليفزيونية
مشتركة فى الإنتاج.
هذا مجرد جانب من جوانب مواجهة هوليوود للأزمة، بالإضافة
إلى تفاصيل أخرى قد لا تحتملها هذه المساحة، لكن ذلك يدلك على ضرورة أن تتحلى
صناعة السينما بالمرونة، التى تتيح لها إدراكا واعيا بأسباب الأزمة، وربما أن تجعل
أيضا من هذه الأسباب طريقا للحل، ناهيك عن القدرة على التنبؤ بالتغيرات قبل أن
تحدث، حتى يمكن الاستعداد لها. تلك هى أزمة صناعة السينما المصرية بالتحديد، أنها
لا تختلف كثيرا عن الرؤية المتخلفة للرأسمالية لدى قطاع كبير من اقتصادنا،
رأسمالية "اخطف واجرِ"، واجمع أموالك واذهب إلى تجارة أخرى! إنها رأسمالية لا تخلق "صناعة"، بل
إنها تشبه ممارسات التجار الصغار فى الأسواق المتنقلة فى القرى الصغيرة!
No comments:
Post a Comment