كثيرا ما تراودني صورتان ساخرتان، الأولى من وحي خيالي
أما الثانية فمن وحي خيال من يقومون على أمورنا، أي "الحكومة" التي ما
تزال في أذهاننا منذ الطفولة هي "العسكري" الذي يخيفون به الأطفال،
عندما تقول الأم لولدها: "هل ستنام أم آتي لك بالعسكري"!! والصورة التي
من وحي خيالي هي أننا – نحن أهل مصر في الفترة الأخيرة – نبدو أقرب إلى سكان
"حارة سد"، لا يخرجون منها أبدا إلى الميدان الذي تفضي إليه، ليس خوفا
وإنما اكتفاء بحياتنا داخل هذه الحارة. ولأننا لا نعلم شيئا حقيقيا عما يدور
خارجها، تدور أغلب تصوراتنا عن العالم من حولنا حول مفاهيم مغلوطة، أو مضحكة في
بعض الأحيان. والغريب في الأمر أننا برغم الفضاء المفتوح الذي يمكن به أن نخرج إلى
الميدان، وبرغم ما يمكن أن نصف به حالتنا بالجهل، فإننا نبدو مكتفين ومستمتعين به،
ولا نصغي لحظة واحدة لمن ينصحنا بأن نصحح تصوراتنا بأن يتشجع بعضنا ويخطو إلى خارج
الحارة، ليقول لنا الحقيقة حول حالنا.
أما الصورة الساخرة الثانية، والتي هي من صنع
"الحكومة"، فهي القول بأننا "بلد مؤسسات"، بينما الكثير من
تصرفات هذه الحكومة ذاتها تثبت أننا لسنا بلد مؤسسات "ولا حاجة"،
فالكثير من القرارات يتم اتخاذه عفو الخاطر، أو بالقفز على الجهات المسئولة عن
إصدار هذا القرار، ويكفيك أن تكون مسئولا كبيرا لكي لا يسألك أحد عن تصرفاتك،
ويطيعك الجميع طاعة عمياء.
اجتمعت هاتان الصورتان الساخرتان في الآونة الأخيرة أكثر
من مرة، في مجال الثقافة السينمائية التي أنتمي إليها، والمفارقة أن هذا قد حدث في
حالات يصعب فيها أن تجتمع، لولا أن "مسئولا" هنا أو هناك قرر أن يتخذ
القرار ذاته، بمنع عرض فيلم ما، سواء كان ذلك الفيلم هو "حلاوة روح" أو
"نوح" أو "الخروج". ومصدر حيرتي هنا، والتي لا تخلو من سخرية
مريرة، هو السؤال حول من اتخذ هذا القرار، هل هو الجهة المنوط بها ذلك؟ أم أن مثل
هذه الجهة ليست إلا إدارة حكومية، شُغلتها أن تسمع كلام المسئول الأكبر وتقوم على
تنفيذه؟
أقول لكم الحق أنني أعتقد يقينا أن اتخاذ مثل تلك
القرارات في مجال السينما (وغيرها كثير في كل المجالات) تشير دائما إلى أننا ما
نزال نخلط بين مفهومي "الدولة" و"الحكومة"، فأجهزة الدولة هي
تلك التي لا تأخذ أوامرها من أحد، وهي تتمتع بالاستقلال في قراراتها، أيا كانت
الحكومة، والتي من المفترض أنها ليست إلا سلطة تنفيذية تقوم على تنفيذ قرارات
"الدولة". ولأضرب لك مثلا بـ"إدارة الأغذية والأدوية"
الأمريكية (إف دي إيه)، فهي التي تقرر صلاحية وفاعلية الغذاء والدواء، وهي لا تتبع
وزير الصحة مثلا أو أي مسئول حكومي آخر، فلها نظامها المستقل تماما في اتخاذ
القرارات. كذلك "مفوضية الاتصالات الفيدرالية" (إف سي سي)، التي تقوم في
أمريكا على كل ما له صلة بالبث الإذاعي والتليفزيوني، بدءا بتحديد ترددات البث،
وانتهاء بقانونية هذا البث ذاته، فلكل مادة مذاعة (وحتى الإعلانات) لها مضمون يجب
ألا تخرج عليه، وزمن للإذاعة مناسب للفئة العمرية التي تتوجه إليها.
تلك هي "المؤسسات"، حيث لا أحد يتصور أن
"الحرية" تتيح له فعل ما يشاء وقتما يشاء، كما هو الحال عندنا للأسف
الشديد، وليس هناك أيضا مسئول حكومي يستطيع أن يتدخل بقراراته في عمل هذه
المؤسسات، كما يحدث عندنا أيضا للأسف الأشد. لقد طرحت على نفسي سؤالا عند تكرار
منع الأفلام في الفترة الأخيرة، من قام بمنعها؟ رئيس الوزراء؟ الوزير؟ ضغوط
الأزهر؟ لكن أين "الرقابة على المصنفات الفنية" من ذلك كله، والتي تم
تجاهلها تماما، ونظل مع ذلك نقول أننا بلد مؤسسات؟ وبالطبع فإن بعض الناس، ممن
يحبذون طريقة اتخاذ هذه القرارات، يقررون بدورهم أن من حقهم رفع دعوى قضائية على
كاتب السيناريو والمخرج والممثلين (وربما المتفرجين أيضا)، و"بهدلتهم"
في المحاكم، جزاء وفاقا على صنعهم هذا الفيلم أو ذاك!!
للعلم، ربما ليس هناك فيلم أمريكي لم يتعرض في أمريكا
ذاتها لاحتجاجات من جماعات ضغط مختلفة، لكن هذه الاحتجاجات تكون موجهة لمؤسسة
الرقابة التي منحت للفيلم ترخيصا بالعرض حسب الفئة العمرية المناسبة لمشاهدته، وليس
للفنان صانع الفيلم، وذلك لأن هناك – بحق – مؤسسة للرقابة لا تأخذ أوامرها من أي
مسئول، وهي المنوط بها وحدها السماح بعرض الفيلم أو منعه، إلا إذا قرر صانع الفيلم
ألا يحصل على مثل هذا التصريح، ليصبح حرا في عرضه كيفما يشاء، لكنه في هذه الحالة
يكون معرضا للملاحقة القضائية ممن يرى أن الفيلم ينتهك أمرا ما، عندئذ يكون
"الفنان ذنبه على جنبه"، لأنه تجاوز مؤسسة الرقابة.
ولن ينصلح حال السينما في مصر إلا بوجود
"رقابة" قوية، لكنها غير الرقابة التي تتبع وزارة الثقافة (وكانت أيام زمان
تتبع وزارة الداخلية!!)، رقابة تابعة للدولة مباشرة، ومكونة من أعضاء يمثلون
الجوانب المختلفة من صناعة السينما، وليسوا موظفين عند أحد، وعليهم أن يعلموا أيضا
أن دورهم هو الدفاع عن حرية الإبداع في كل جوانبه، ما دام هذا الإبداع لم يخرج على
القواعد التي وضعتها هذه المؤسسة الرقابية. وكمجرد مثال، لقد كان على الرقابة أن
تدافع عن فيلم "حلاوة روح"، فقط لأنها هي التي منحته ترخيصا بالعرض،
وليس من حق أحد – حتى رئيس الوزراء – أن يلغي هذا الترخيص، وهذا بالضبط هو الحكم
القضائي الذي انتهى إليه الأمر.
وبالمنطق ذاته، نتساءل: من منع عرض فيلم "نوح"
أو "الخروج"؟ وما أسباب هذا المنع؟ (تقول الرقابة أن هذا الفيلم الأخير
لم يعرض عليها أصلا!!). والبعض يخمن أن السبب الحقيقي هو عدم الصدام مع رجال
الأزهر – والسلفيين أيضا، ولنكن صرحاء مع أنفسنا – الذين يقولون بعدم جواز تمثيل
دور صحابي أو نبي، دون أن يكون هناك أي نص ديني حول ذلك. بل إن أفلاما مصرية قديمة
قدمت صحابيين مثل بلال بن رباح في فيلم "بلال مؤذن الرسول"، أو عمار بن
ياسر في "ظهور الإسلام"، دون أن يثير ذلك أي مشكلة من ذلك النوع الذي
يثيرونه الآن، حول أن صورة "الممثل" – التي هي شائنة عند رجال الدين! –
سوف تختلط بصورة الصحابي، فهل حدث ذلك مع يحيى شاهين أو عماد حمدي في الفيلمين
المذكورين؟ كما أننا كنا في طفولتنا نشاهد – حتى في دور عرض المدن الصغيرة –
أفلاما حول حياة السيد المسيح، دون أن يثير ذلك في نفس أكثرنا سذاجة أي توحد بين
صورة الممثل والشخصية التي يؤديها.
ومن إخفاء الرؤوس في الرمال أن ننكر أن النزعة السلفية
قد باتت تسيطر على حياتنا في أمور شتى، وتأخذ أشكالا متنوعة، لذلك فإن علينا أن
نواجه هذه النزعة برؤية تنظر نحو المستقبل وليس نحو الماضي. ومن إخفاء الرؤوس في
الرمال أيضا ألا نعترف أنه لم تعد هناك حواجز تمنع رؤية أي فيلم تريده، من خلال
وسائل الاتصال الحديثة، لقد استطاع كاتب هذه السطور – عبر الإنترنيت - الحصول على
نسخة ممتازة من فيلم "نوح"، ومعه ملف الترجمة العربية له، بمجرد طرح قرص
الــ"دي في دي" في أمريكا، كما استطعت الحصول على نسخة متوسطة من فيلم
"الخروج" وهو ما يزال في دور العرض، ولأن شريط الصوت ضعيف إلى حد ما،
فإن هناك ملفا مكتوبا للحوار المنطوق يمكنك أن تعرضه متزامنا مع الصورة على شاشة
الكومبيوتر.
لم أتأثر لحظة واحدة بتجسيد راسيل كرو لشخصية النبي نوح،
لكنني عرفت كيف يفكر الأمريكيون (السلفيون أيضا بالمناسبة!!) في استغلال الأنبياء
لتبرير العنف، حتى بتدمير العالم من أجل إيجاد "نظام عالمي جديد"، ولم
أتعاطف لحظة واحدة أيضا مع كريستيان بيل وهو يجسد النبي موسى، الذي رأيته هنا بطلا
لحكاية خرافية لا وجود فيها لشعب مصري على الإطلاق، فقومه (الذين يسميهم الفيلم
يهودا، بينما كان اسمهم حتى ذلك الحين "العبرانيين") هم الذين يصنعون كل
شيء، لذلك سوف يسخر المتفرج من أن مصر استمرت تبني الحضارة بعد خروجهم منها، كما
كانت قبل دخولهم إليها.
وهنا نأتي إلى مبرر منع عرض مثل هذه الأفلام، بحجة عدم
تعريض المتفرج المصري لمثل هذه الأكاذيب، وكأن المسئول الكبير يمارس نوعا من
"الأبوة" على الناس، بينما هذه السلطة في هذه الحالة في يد مؤسسة
الرقابة وحدها (مرة أخرى: المؤلفة من أهل صناعة السينما، وليس من موظفين تابعين
للحكومة). وأرجو مخلصا أن يجيبني أحد على تساؤلي حول تعريض المتفرج المصري لأشياء
يقال عنها أنها "أفلام" من النوع الذي تنتجه السينما المصرية الآن، وعدم
تعريضه لأفلام هي على الأقل متقدمة تقنيا لكي يعرف ما يرى الناس في العالم من
حوله؟ وكم عدد من يشاهدون أفلاما أجنبية، بالمقارنة مع زبون الفيلم المصري الآن؟
وهل استطعنا حقا منع مشاهدة الفيلم وتحميله من على الإنترنيت، في زمن لم تعد مثل
هذه الحواجز الرقابية تمثل أمرا حاسما؟
يقودني ذلك كله إلى الصورة الساخرة الأولى التي بدأت بها
كلامي، عن الحارة التي نرفض الخروج منها، متصورين أننا "أحسن ناس في
العالم" دون أن تكون لدينا معرفة حقيقية بهذا العالم. وعودة إلى مجال الثقافة
السينمائية الذي أنتمي له بشكل ما، فإنني لم أجد سوى كتابات متناثرة حول
"نوح" أو "الخروج"، معظمها يقع في دائرة الكتابة الصحفية وليس
النقدية، كما لا أجد اهتماما جادا بما يحدث في العالم، ولم يحدث في أي عام أن عرضت
جمعية سينمائية مثلا الأفلام المرشحة لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، لكي نعرف إلى أين
وصلت السينما في أشكالها ومضامينها، وحتى الكتابة عن أفلام الأوسكار الأمريكية
ليست إلا ترجمة لمادة صحفية، لا تضيف شيئا للقارئ سوى بعض الأسماء التي سوف ينساها
بعد أيام.
مصدر سخريتي المريرة هو أن هناك منفذا للحارة يؤدي إلى
الميدان، أكثر من أي وقت مضى. لقد كنا منذ أربعين عاما نلهث بين المراكز الثقافية
الأجنبية لنرى أفلاما لا تقدم في دور العرض التجارية، أما الآن، وفي عصر أصبحت هذه
الأفلام متاحة بيسر بالغ، فلا أحد يراها إلا بشكل عابر ومتفرق، ومن هواة السينما
أكثر من المشتغلين بالثقافة السينمائية. وهنا أجد المسئولية موزعة على جانبين:
موظفي الحكومة الكبار الذين يمثلون عائقا أمام وجود حقيقي لدولة مؤسسات، وعاملين
في مجال الثقافة السينمائية، أصبحت هذه الثقافة بالنسبة لهم "أكل عيش"،
وليست رسالة في تعميق وعي الجمهور بالأشكال والمضامين التي وصلت إليها السينما في
العالم.
فهل من سبيل لخروجنا من الحارة؟؟
No comments:
Post a Comment