Saturday, February 22, 2014

المونولوج: ابتسامة بالموسيقى والغناء




للمونولوج في لغات العالم معنى مختلف تماما عما نعرفه في العالم العربي، فالمونولوج هو المقطع الذي يتحدث فيه الشخص وحده، وفي الأغلب في نوع من المناجاة الذاتية، على نحو ما نعرفه في ذلك المونولوج الشهير من مسرحية "هاملت" لشكسبير: "أكون أو لا أكون؟ تلك هي المشكلة". على العكس تماما يأخذ المونولوج في عالم الغناء العربي معنى ساخرا، يميل أحيانا إلى التهريج، أو في الأغلب للنقد الاجتماعي، لكنه في السينما على نحو خاص يستخدم كنوع من تخفيف القتامة الميلودرامية، فكأنه فواصل يلتقط فيها المتفرج أنفاسه، وهو يمضي مع تقلبات الدراما ومآسيها.
وأصبح لوجود المونولوج في الأفلام المصرية مكان مهم، خاصة في مراحلها الأولى، كما اشتهر بعض هذه المونولوجات شهرة ذائعة الصيت، على نحو ما صنع عزيز عثمان في العديد من الأفلام التي اشترك فيها. ولأنه كان ابن واحد من أهم الموسيقيين المصريين، وهو محمد عثمان، الذي كان الخطوة الأولى في تحديث الأغنية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر، فقد ورث عنه ابنه عزيز القدرة على أداء أصعب الألحان، وإن لم يكن صوته جميلا. لذلك كان دوره السينمائي الدائم هو غناء هذه المونولوجات، التي كان أشهرها "بطلوا ده واسمعوا ده"، من فيلم "لعبة الست" (1946)، الذي يهجو فيه العريس (نجيب الريحاني) لزواجه من عروس جميلة (تحية كاريوكا)، لذلك فإن "الغراب يا وقعة سودا، جوزوه أحلى يمامة"!!
بل إن تحية غنت في الفيلم ذاته مونولوجا، كان أيضا من كلمات بديع خيري وتلحين محمود الشريف، وهو "يا خارجة من باب الحمام، وكل خد عليه خوخة، مشيتي حافية وخدتي زكام، ورابطة راسك من الدوخة"! لكن صاحب الرقم القياسي في هذا المجال كان بلا جدال اسماعيل ياسين، إما بمفرده أوبالاشتراك مع مطربات أخريات، كانت من أشهرهن سعاد مكاوي. إنه مثلا في فيلم "المليونير" (1950) يقوم بدور الصعلوك الذي احتل مكان مليونير شبيه به، لإنقاذ هذا الأخير من ورطة ألمت به، وها هو الصعلوك ينجذب للخادمة سعاد مكاوي، ويبوح لها باشتياقه للأكلات الشعبية، ويغني: "عايز أروّح"، فتجيبه: "ها تروح فين وتسيبني لوحدي، أغسل حلل البيت بدموعي". أما في فيلم "شباك حبيبي" (1951) فهو الطرابيشي الذي تذهب إليه حبيبته سعاد مكاوي، حاملة طربوش أخيها الذي تتعمد "بهدلته"، حتى تختلق عذرا للذهاب للقاء الحبيب، ويعبر اسماعيل عن ذلك بغنائه: "طربوش أخوكي من الهوى يا ما انكوى لما استوى"!!
وكثيرا ما يعمد المونولوج إلى التقليد الساخر من أغنية شهيرة. ففي فيلم "اشهدوا يا ناس" (1953) يقدم اسماعيل محاكاة لأغنية ليلى مراد "حدش مشغول البال"، التي تجيب فيها عن أسئلة الفتيات العاشقات اللاتي تتألمن من عذاب الحب، لكن اسماعيل هنا يحاور رجالا يشكون من استقواء زوجاتهم وحمواتهم. كما أنه في "اسماعيل ياسين في السجن" (1960) يغني على لحن أغنية "أيظن؟"، وهو ينتظر تنفيذ حكم الإعدام الظالم عليه: "أيظن أني لعبة بيديه؟ أيظن أني لعبة بين رجليه؟ قولوا له عجّل فعندي موعد في الآخرة، فاضل لي ربع ساعة عليه" (ينطقها بالفصحى حتى يستقيم الوزن). كما اشترك مع شادية في تقليد ساخر آخر لأغنية أم كلثوم "إنتي فاكراني؟"، ففي فيلم "قطر الندى" (1951) تفقد شادية ذاكرتها بسبب حادث، ويحاول اسماعيل أن يجعلها تعود إلى وعيها بسؤالها إن كانت تتذكره، فتجيب: "فاكرة كنت تملي أجي لك، جوة في جنينة الحيوانات"!
ولعل المنافس الأهم لاسماعيل ياسين في مونولوجات الأفلام كان محمود شكوكو، الذي اشترك مع اسماعيل وشادية في مونولوج ثلاثي هو "احنا التلاتة حاجة شرباتاتا" في فيلم "ليلة العيد" (1949)، لكنه قدم أيضا تقليدا ساخرا لأغنية عبد الوهاب "حكيم عيون"، ففي فيلم "خد الجميل" (1951) يصطنع أنه طبيب بيطري، ويغني لسامية جمال: "حكيم لذوات لاربع رجلين". كما يغني في فيلم "عنتر ولبلب" (1952)، وقد هرب إلى الحظيرة من مطاردة غريمه، الذي كاد أن يخطف منه حبيبته، ويخاطب الحيوانات: "خليكوا شاهدين يا بهايم، على غدر البني آدمين، إخلاصكم إخلاص دايم، أنما دوكهم خاينين". ودائما ما كان شكوكو يؤدي أدوارا شعبية وشخصيات تعمل في مهن متواضعة، كما في فيلم "الدنيا حلوة" (1951)، حيث يعمل "مكوجيا"، ويغني: "يا مكوة العز يا ولعة".
وفي تلك الفترة بين نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، اشتهرت شخصية عمر الجيزاوي الذي كان يؤدي دائما دور الرجل الصعيدي، عادة بصحبة شخصيتين فنيتين أخريين هما "كبير الرحيمية قبلي وولده" (محمد التابعي وسيد بدير). وربما جاءت مونولوجاته في معظم الأحيان دون علاقة وثيقة بالأحداث، لكن المخرجين كانوا يبرعون في أن يجدوا مكانا لها. لقد كان له مونولوج شهير هو "اتفضل قهوة"، فاخترع له المخرج عباس كامل في فيلم "خد الجميل" شخصية صعيدي قام بتكوين "الفرقة القومية السرية" للغناء، خوفا من العمدة الذي يعتبر الفن خروجا على الأخلاق، وها هو الجيزاوي يؤدي مونولوجه للبطلة سامية جمال لعلها تقتنع بموهبته. كما أنه في "الست نواعم" (1957) يلقي مونولوجا يدعو الصعايدة لمحو أميتهم: "العلم نونٌ واوٌ راءٌ، العلم شمسٌ قمرٌ ماءٌ". (كانت هناك محاولات لاحقة غير ناجحة في أفلام محمد هنيدي لاستنساخ مثل هذه الشخصيات الصعيدية).
وفي تلك الفترة ذاتها أيضا ظهرت ثريا حلمي، أشهر من أدى المونولوج السينمائي من الممثلات، وكانت مونولوجاتها تتميز دائما بالنقد الاجتماعي الصريح، ففي فيلم "لو كنت غني" (1942) تغني "أما أنت جريء والله"، لتنتقد غدر المحبين على اختلاف أنواعهم، كما غنت في "اسماعيل ياسين يقابل ريا وسكينة" (1955)، في انتقاد لسلوكيات المستهترات في المصيف: "بنات اليوم، يحبوا العوم". لكن المطربين التقليديين أيضا اشتركوا فى أداء نوع من الأغنية المرحة، التي تقترب من فن المونولوج، مثلما فعل محمد فوزي مع اسماعيل ياسين في فيلم "من أين لك هذا؟"، فكان فوزي يغني "يا بختك يا قلبي"، بينما يرد اسماعيل "يا حوستك يا قلبي" وفي نمرة فريدة من فيلم "تاكسي الغرام" (1954)، يتنكر عبد العزيز محمود في زي بائع "حب العزيز"، الذي يطوف بعربة اليد حول بيت محبوبته لينقذها من الزواج من رجل لا تحبه، ويردد: "آدي احنا جينا ما تزعلشي، وكل عقدة ولها حلال، فرحة صاحبنا ما تكملشي، وليلة كوبيا على العزال".
اختفى المونولوج وأصحابه لفترة طويلة، ربما لازدهار المسرح الكوميدي خلال الستينيات، لكنه عاد في شكل تهريجي في فترة لاحقة. وكانت المفارقة أن هذه العودة جاءت على يد ممثلين، ليصبح غناؤهم في الأفلام فقرة يتصور صناع الأفلام أنه لا غنى عنها (في الحقيقة أنها كانت "موضة" ظهرت واختفت، دون أن تترك أثرا فنيا حقيقيا). وربما كانت البداية مع محمود عبد العزيز في فيلم "الكيف" (1985)، حين أدى بعض المونولوجات، مرة كمطرب شهبي هزلي يغني: "يا حلو بانت لبتك، آه يا قفا يا قفا"، ومرة أخرى متغزلا في الطرق الكيميائية لصناعة المخدرات في مونولوج "الكيمي كيمي كا". وسرعان ما لحق به أحمد زكي، الذي كانت مونولوجاته مقحمة تماما على السياق، ففي "البيه البواب" (1987) يلعب دور البواب، الذي تدور الخمر برأسه، فيغني "أنا بيه" وسط علية القوم، الذين يعحبون بأغنيته، ويشتركون معه فى أدائها. وفي "كابوريا" (1990) يغني "أنا فى اللابوريا أموت في الفوريا"، وتلك في الحقيقة كلمات لا معنى لها. وفي تنويع مختلف يقدم محمود حميدة في فيلم "حرب الفراولة" (1994) مونولوج اسماعيل ياسين "قول لي يا صاحب السعادة"، في إشارة لتيمة الفيلم حول أن السعادة لا تأتي بالمال: "كلنا عايزين سعادة، بس إيه هي السعادة، واللا إيه معنى السعادة".
وتأتي فترة من أطلقوا على أنفسهم "المضحكين الجدد"، ليعاود المونولوج الظهور، ولكن في شكل عبثي تماما هذه المرة، ففي "اسماعيلية رايح جاي" (1997) يشترك هنيدي مع محمد فؤاد في "كامننا" (لا معنى لها أيضا)، وإن كان المونولوج يعبر عن الرغبة في الثراء والصعود الاجتماعي. ويقطع محمد سعد شوطا آخر في طريق الابتذال، حين يغني "حب إيه" في فيلم "اللمبي" (2002)، في سخرية ممجوجة، ورقص بهز الوسط كما لا يعرفه الرجال، وهو الأمر الذي برع فيه في الآونة الأخيرة سعد الصغير، الذي يغني في "عش البلبل" (2013) "إركبي ورايا العجلة"، في تشبيهات سوقية، وضجيج سمعي وبصري، لم يعد فيه لفن المونولوج إلا أثر باهت شاحب.
وكثيرا ما اتهمت السينما المصرية بتجاهلها للأحداث السياسية، ولم يكن ذلك بعيدا عن الحقيقة في أغلب الأحيان، ومع ذلك فإن المونولوج السينمائي قدم نموذجا بسيطا لمثل هذا الدور السياسي، انتقده أيضا بعض النقاد، باعتباره خارجا على سياق الفيلم، وتجاهلوا أن الأفلام في فترة ما كانت تقوم بدور "الإعلام" لجمهور الطبقتين الفقيرة والوسطى. وفي فيلم "اللص الشريف" (1953) مثال واضح على ذلك، في فترة لاحقة مباشرة على ثورة 1952، ولتتأمل كلمات مونولوج اسماعيل ياسين "عشرين مليون وزيادة": "المولى أراد، كان بالمرصاد، وسمع شكوى المظاليم، والشعب بقت له إرادة، هزت كل الشنبات، وبقينا كلنا سادة، ولا بهوات ولا باشوات"....
وما أحوجنا هذه الأيام إلى مثل هذه المونولوجات، خفيفة الظل، بسيطة الكلمات، لكن فن المونولوج السينمائي ظل متهما لدى العديد من النقاد بالتفاهة، بينما كانت السينما ذاتها، وربما الجانب الأكبر من السياق التاريخي أيضا، يغرقان ليس فقط في التفاهة، وإنما في الابتذال.

No comments: