Friday, January 17, 2014

حياة الموسيقيين في السينما


من الغريب أن الشعب العربي يعشق الموسيقى والأغنيات عشقا يكاد لا يدانيه فيه شعب آخر، ونحن نسمي الغناء "طربا" عندما ننتشي به ونطرب، بل نطلق أيضا ألفاظا أكثر مبالغة وصفا لزيادة حالة النشوة من سماع الغناء والموسيقى، مثل "السلطنة"! ولا يقتصر ذلك على الأجيال الأكثر عمرا كما نتصور للوهلة الأولى، فهو يمتد إلى الأجيال الجديدة على نحو قوي، وهو الأمر الذي استغلته بعض القنوات الفضائية، التي خصصت برامج لاكتشاف مواهب غنائية وموسيقية جديدة، حتى أن هذه البرامج تحولت في لا وعي الشباب من الجنسين إلى نوع من أحلام اليقظة. أقول من الغريب أن يكون ذلك هو واقع الحال، بينما السينما العربية – والمصرية بشكل خاص – تكاد أن تخلو من الاعتماد في أفلامها على قصص حياة الفنانين العرب، سواء في مجال الموسيقى أو الغناء، بينما تحتشد على العكس بأفلام حياة الراقصات، سواء كن حقيقيات أم من تأليف صناع الأفلام. غير أن السينما العالمية اعتمدت كثيرا على مثل تلك الموضوعات، لأنها في الأغلب مضمونة النجاح، بسبب عشق الجمهور لهذا المغني أو الموسيقي أو ذاك، لذلك فإن هناك العشرات من الأفلام التي تناولت حياة إلفيس بريسلي على سبيل المثال، وعشرات أخرى عن بيتهوفن وتشايكوفسكي وإدوارد جريج وغيرهم كثير. وكان الأهم في معظم هذه المعالجات البحث عن محور "درامي" تدور حوله الأحداث، وليس مجرد سرد أحداث متناثرة أو هامشية، ولعل الأبرز على الإطلاق في هذا السياق هو فيلم المخرج التشيكي الأصل ميلوش فورمان "أماديوس"، الذي يأخذ الموسقي الأشهر موزار بطلا له، ففي معالجة بالغة التميز، خاصة من كاتب السيناريو عن مسرحيته هو ذاته، بيتر شافر، جعل محور الدراما هو منافس موزار في زمانه، أنطونيو سالييري، الذي كان برغم أنه كان الأقرب من أصحاب السلطة والسلطان يغار من موزار غيرة قاتلة، لأنه يعلم أن هذا الأخير هو الموهوب حقا، حتى أنه استنزفه حتى الموت في كتابة قداس جنائزي وهو في حالة حمى، ليجعل الفيلم من هذا القداس ذروته ونهايته. في الحقيقة أن "أماديوس" يمثل حالة فريدة من استخدام السينما للموسيقى وحياة المؤلف الموسيقي، رغم ما قد يكون هناك بعض الابتعاد عن الحقيقة التاريخية، لكنه الابتعاد الذي يطلقون عليه "الرخصة الإبداعية". ويمكنك أن ترى نموذجين متناقضين في هذا المجال، بين فيلم "يوميات أنّا ماجدالينا باخ"، الذي يلتزم التزاما حرفيا بالتاريخ، حتى أنه يبدو أشبه بمحاضرة عن حياة الموسيقي الشهير يوهان كريستيان باخ، من خلال يوميات زوجته، لكنك قد لا تجد متعة كبيرة في الفيلم، بينما هناك فيلم آخر وصل في استخدام الرخصة الإبداعية إلى حد بعيد، وهو "ناسخة بيتهوفن"، الذي يتناول السنوات الأخيرة من حياته، حين أصابه الصمم، وقاد الأوركسترا ليعزف واحدا من أعماله الأخيرة، السيمفونية التاسعة أو الكورالية، وهو لا يكاد يسمع أصوات الآلات، فيأتي الفيلم ليخترع شخصية فتاة عملت معه في تلك الفترة، وأعادت له الأمل في الحياة والإلهام، ولتنسخ له المدونات الموسيقية على الورق، ولتختفي من وراء الستار لتدله على الإشارات التي يجب أن يوجهها للفرقة الموسيقية الكبيرة. يعلم الكثيرون أن تلك قصة مخترعة وليس فيها ظل من حقيقة، ومع ذلك جاء المشهد الأخير عميق التأثير عاصف الانفعالات. وتلك هي المرونة التي تتسم بها السينما العالمية في معالجاتها لقصص حياة المشاهير، وهو الأمر الذي لا ينطبق فقط على مؤلفي الموسيقى الكلاسيكية، بل يمتد أكثر لعالم الموسيقيين والمغنين الجماهيريين من كل العصور. تأمل على سبيل المثال فيلم "راي" عن حياة الموسيقي المبدع الزنجي الضرير راي تشارلز، فرغم أنه يستعرض سلسلة من نجاحات البطل وإخفاقاته في حياتيه العاطفية والفنية، فهو يصطنع محورا لأزمة عاشت معه طوال حياته، لإحساسه بالذنب لأنه كان سببا في وفاة شقيقه عندما كانا في مرحلة الطفولة. كما أن فيلم "الحياة في لون وردي" يتناول حياة المغنية الفرنسية الشهيرة إديت بياف، وهي الحياة التي احتشدت بتقلبات عاصفة، حتى أنها بدت في النهاية "عصفورة" غردت لتمتع الملايين، بينما هي في الحقيقة تصرخ ألما. أما فيلم "السير في الطريق المستقيم"، فهو يتناول حياة مغني موسيقى "الكانتري" جوني كاش، الذي كاد أن يفقد مساره مرات عديدة، ويسقط من ذاكرة معجبيه، لولا وقوف زوجته وشريكته في الغناء جون كارتر إلى جانبه. وهناك أفلام تخلق عالما مصطنعا كاملا، له نكهة خاصة، متماسا مع حياة مغنين مشهورين وإن لم يكن يروي قصة حياتهم، مثل فيلم مغني "الراب" الأمريكي إيمينيم "8 أميال"، ليبدو الفيلم كأنه تصوير لقصة كفاحه من السفح حتى قمة الشهرة، أو الفيلم الذي لعبت بطولته الممثلة الرائعة ميريل ستريب "ماما ميا" (وهذا اسم أغنية شهيرة لفرقة "آبا")، لتبدو عضوة في الفرقة انتهت في كهولتها للعيش في حياة عائلية ساكنة، ثم عودتها للغناء من جديد تعبيرا عن حبها للحياة. وبالمقارنة، فإن الأفلام المصرية عن الموسيقيين والمغنين – التي لا يتجاوز عددها أصابع اليدين – تفضل ألا يدور الفيلم عن الموسيقى أو الغناء، ودورهما في حياة الفنان والإنسان، بينما تميل إلى اتخاذ قصة حياته وسيلة لصنع حبكة بالغة الميلودرامية. هذا هو ما يمكنك مثلا أن تجده في فيلمي المخرج حسن الإمام "بديعة مصابني" الذي لعبت بطولته نادية لطفي، و"سلطانة الطرب" عن منيرة المهدية ومن بطولة شريفة فاضل، فأنت لا تكاد أن تتذكر بعد أن تشاهد الفيلم شيئا ذا بال من فن هاتين الشخصيتين، اللتين بلغتا في زمانهما ذروة الشهرة، وما سوف يبقى في ذاكرتك عن الأولى أنها كانت على علاقة حب غير ناجحة مع نجيب الريحاني، ورحلتها التي قادتها في النهاية إلى الوحدة والانعزال، أما الثانية فهي تعيش مع حسن الإمام حبكة تبدو منتزعة من فيلم هندي تقليدي، عن الفلاحة التي صعدت إلى الشهرة، وعن ابن لها أنكره أبوه مما جعلها تعيش حياة غارقة في الآلام. وإذا كان فيلم "سيد درويش" قد اهتم إلى حد ما بالجانب الموسيقي من حياة أهم الموسيقيين المصريين والعرب، فإنه لم يخلُ أيضا من الاستطرادات حول غرامه بشخصية جليلة العالمة (هند رستم)، إلى جانب بعض اللمسات السياسية التي جعلته يشترك بفنه في ثورة 1919. لكن الكارثتين بالمعنى الفني لقصص حياة المغنين والمغنيات، جاءتا مع أشهر اثنين من مطربي القرن العشرين. الأول هو فيلم "كوكب الشرق"، للمخرج محمد فاضل وبطولة فردوس عبد الحميد، فليست هناك أي "بؤرة درامية" للمشاهد التي تراها على الشاشة، حتى أن الفيلم يبدو مجرد تحقيق لرغبة الممثلة في تجسيد شخصية أم كلثوم. وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على الفيلم الثاني "حليم"، الذي يبدو عملا فنيا بدائيا، للممثل القدير أحمد زكي وهو "يقلد" عبد الحليم حافظ، ولا يعتمد في حبكته إلا على سلسلة من المشاهد التي يسرد فيها الممثل فقرات عن حياة المطرب الكبير، دون أن يكون هناك رابط فني حقيقي يجمع بينها. الأغرب أن المشاهد الأكثر دفئا عن موسيقيين ومغنين جاءت في أفلام لا تروي سيرة واحد منهم، بل هي جزء من نسيج الشخصية والدراما. فبالقرب من نهاية فيلم "فيللا 69" يتشارك رجل كهل مع صبي مراهق في عزف شجي تعبيرا عن تلاقي الأجيال، وفي "فيلم هندي" مشهد للعزف والغناء الدافئين يجمع كهلا مسيحيا وشابا مسلما تعبيرا عن روح الوحدة الوطنية. وفي الحقيقة أنهما مشهدان يمكن أن تعتبرهما تنويعين على مشهد النهاية من فيلم "الكيت كات"، حين يجلس الأب وابنه على شاطئ النيل، وقد ذابت الحواجز التي كانت تفصل بينهما، ليعزفا ويغنيا عن "حصان الخيال".... ذلك هو الخيال الذي ينبعث من طرب وسلطنة الموسيقى والغناء في حياتنا، لكنه يغيب كثيرا عن أفلامنا.

No comments: