في كل صناعات السينما في أنحاء العالم المختلفة، كانت سينما العنف تشكل رافدا مهما من الأفلام التجارية، وكان هذا يعود في الجانب الأكبر منه إلى أن هذا الفن يعتمد على الإيهام بحركة الصورة، فكلما كانت الحركة أوضح كان الفيلم أقوى تأثيرا، خاصة على المستوى "الفسيولوجي" للمتفرج، الذي ترتفع عنده نسبة "الأدرينالين" إلى حدود ربما لا تحدث في الحياة اليومية، وربما كان هذا يفسر كيف أن أفلام الحركة تصبح لدى البعض أقرب إلى "الإدمان"، لأن جسده قد اعتاد على إفراز هذا الهورمون، ويشتاق دائما لزيادته.
لكن العنف قد يكون أيضا ناتجا عن تأثير اجتماعي، فهو قد يعود إلى جذور تاريخية في تكوين المجتمع ذاته، مثل أمريكا التي قامت أصلا على إبادة السكان الأصليين، ثم سلسلة من الحروب الأهلية بالغة الدموية التي استمرت حتى بدايات القرن العشرين، لذلك أصبح العنف "لغة" سائدة، وهو ما انعكس في السينما في نمطين فيلميين جماهيريين، هما "الويسترن" ببطله راعي البقر أو "الشجيع"، وفيلم رجال العصابات حيث يصعد زعيم العصابة إلى القمة على جثث العشرات من الأعداء بل الأصدقاء أيضا. وعلى النقيض، تسلل العنف إلى السينما اليابانية في شكل أفلام "الساموراي"، وهم الفتوات المسلحون الذين يستأجرهم الضعفاء للدفاع عنهم، فهم في هذه الحالة أقرب إلى فعل الخير، والحنين إلى زمن ماضٍ لم يعد له وجود في ظل التحديث المعاصر.
ومن المثير للاهتمام أن السينما المصرية لم تعرف هذا العنف إلا بعد عقود من ولادتها، على عكس صناعات سينمائية أخرى بدأت به، وفي الأغلب كان هذا انعكاسا لمجتمع لا يرى أن العنف وسيلة لتحقيق المطالب، وكثيرا ما تشهد في الأفلام المصرية القديمة دعوات للصبر على المكاره، ويسمون ذلك نوعا من "العزيمة" مثلا كما في أهم أفلام السينما المصرية التقليدية. غير أن العنف ظهر على استحياء في شكل الأفلام التي أطلقوا عليها أفلاما "بدوية"، حيث السيف فقط هو الوسيلة، وإن كان في ذلك مغازلة لقيم "الفروسية" القديمة في الوجدان العربي، وليس تكريسا للعنف ذاته.
ويمكنك أن تقول إن هذا "الفارس" ارتدى ثوبا جديدا في الخمسينيات، مع ما عرف آنذاك بأفلام "الفتوات"، التي يأتي "فتوات الحسينية" على رأسها، لكن الفتوة هنا رمز لقوة الخير التي تحارب قوى الشر، وربما تحول الفتوة ذاته إلى الشر إذا استولى الطغيان على روحه وعقله، غير أنه كان دائما يشير إلى زمن قديم، فيه مزيج من الواقع والأسطورة، وهو ما حدا بالروائي العظيم نجيب محفوظ (وهو ذاته كاتب سيناريو "فتوات الحسينية") أن يجعل الفتوة – الطيب أو الشرير- شخصية مهمة في أعماله، بل إن تنويعات الفتوة تصبح هي جوهر عمله الملحمي الأشهر "الحرافيش"، الذي استمدت منه السينما المصرية العديد من الأفلام في عقد الثمانينيات، وقع أغلبها في دائرة أفلام العنف والحركة، لكن فيلما مثل "الجوع" يتحول إلى دراسة لأسباب اللجوء للفتوة، عندما يغيب العدل الاجتماعي.
ودائما ما كان هذا البطل الفردي يلقى استحسانا من الجمهور، خاصة فيما تعارفنا عليه باسم جمهور "الترسو"، حيث يكون عنف هذا البطل تفريغا لشحنة القهر والعجز لدى المتفرج، ولهذا السبب ذاته كان النقاد والمثقفون يرفضون هذا النوع من العنف، الأقرب إلى التخدير منه إلى التنوير أو التطهير. ومع ذلك لم تتوقف السينما المصرية عن العودة إلى مثل هذا البطل الصعلوك، المجرم، البلطجي، بين الحين والآخر، وإن كان ذلك بشكل متناثر ولأسباب متباينة. ففي فترة الخمسينيات كانت هناك مثلا محاولة لتفسير السلوك الإجرامي، لا تخلو من الميلودراما الفاقعة الفاجعة، في فيلم "جعلوني مجرما"، بينما كانت "موضة" أفلام الكاراتيه وفنون القتال الأسيوية سببا في الثمانينيات والتسعينيات في ظهور أفلام مصرية تقلدها، خاصة في أفلام لاعب الكونج فو (الذي يفتقد موهبة التمثيل تماما) يوسف منصور، مثل "العجوز والبلطجي" و"قبضة الهلالي"، أو عندما أصبح لاعب كمال الأجسام الشحات مبروك نجما سينمائيا للعديد من افلام المقاولات، مع أنه تم استخدامه في عمل ناضج كان يحمل اسم "المرشد"، وأخيرا فإن الممثل الموهوب أحمد زكي جرب حظه في هذا المجال دون إقناع كبير في "مستر كاراتيه".
وفي كل الأفلام السابقة وتنويعاتها، كان الفتوة أو البلطجي في السينما المصرية نوعا من الاستثناء وليس القاعدة، وهو يظهر أحيانا لكنه لا يلبث أن يختفي، وربما كان فيلم "أقوى الرجال" المقتبس عن المسرحية التركية "وحش طوروس" يفسر ذلك: إن البلطجي نوع من الوهم وليس حقيقة، والناس تخاف منه بسبب الأساطير الكاذبة الملفقة التي حيكت حوله، لكنه في الحقيقة شخص هش ضعيف، فكأن ذلك يعبر عن عمق الشك في نفوس الجمهور المصري والعربي تجاه أسطورة وسطوة الفتوة. بل إن الأمر يأخذ منحى مختلفا تماما، عندما أصبح عادل إمام بطلا جماهيريا، ليس لأنه تكرار مثلا لوحش الشاشة فريد شوقي، بل لأنه النقيض له، إنه الذي يأخذ حقه بما يتمتع به من دهاء و"فهلوة"، وعندما كان عادل إمام يرتدي ثوب الفتوة البلطجي الشجيع، كما في "شمس الزناتي" مثلا، فإنه كان يلقى تجاهلا من الجمهور، وهذا هو السبب في عودته بعد ذلك إلى تنويعات جديدة من البطل الفهلوي، بدءا من "اللعب مع الكبار".
فجأة، ومنذ أربعة أو خمسة أعوام، طفت على سطح السينما المصرية أفلام بالغة العنف، تقدم بلطجيا من نوع جديد، وربما كانت الجملة الشهيرة لأحمد السقا في فيلم "الجزيرة" تلخص فلسفة هذا البطل وأفلامه: "من النهارده مفيش حكومة، أنا الحكومة"!! وكان ذلك إيذانا وإعلانا صريحا بمرحلة جديدة ليس في السينما المصرية فقط، بل في المجتمع المصري كله: خذ حقك بيدك، لأنه لا وجود لسلطة تأخذ لك هذا الحق!! ومنذ تلك اللحظة طفا على السطح وجود (حقيقي أو زائف) للبلطجي، وأصبحت بعض الدوائر السياسية تستخدم هذا الوجود (صدقا أو كذبا) لتفسير العديد من الأحداث الدموية الغامضة، التي قد تكون في الحقيقة من تدبير بعض هذه الدوائر، وليس البلطجية سوى أداة يتم استئجارها لتنفيذ مهام قذرة ما.
وهكذا ظهر "ابراهيم الأبيض"، أكثر الأفلام دموية في تاريخ السينما المصرية، استأجروا له "خواجة" من مخرجي "الوحدات الثانية" المسئولة عن تنفيذ مشاهد "الأكشن"، ليصبح الفيلم سلسلة من هذه المشاهد، تربطها شخصيات لا يمكن أن تكون موجودة في الحقيقة، وحتى لو كانت موجودة فإن مكانها ليس على شاشات السينما، بل في المصحات العقلية أو وراء أسوار السجون. وفي الوقت ذاته، كان هذا الفيلم وما تلاه من نوعيته، تفريغا لشحنة العنف التي تتزايد في نفوس قطاع من المتفرجين، نتيجة تجاهلهم على المستوى الاقتصادى والاجتماعي والسياسي.
لا يجب إذن أن يبدو من المستغرب أن تحتشد الأفلام المصرية الأخيرة بمثل هذا النوعية، ومثل هذا البطل، مثل "عبده موتة" و"قلب الأسد" و"القشاش"، فالأغرب ألا تظهر، وفي سياق ضعفت فيه إلى حد كبير قبضة السلطة في تحقيق التوازن بين الطبقات الاجتماعية المختلفة أو المتناقضة، وفي أجواء تخلت فيه الجهات المنوط بها تحقيق العدالة أو إنصاف المظلوم عن مسئولياتها، وفي ظل غياب متعمد أو غير متعمد لسيادة القانون، لا يمكنك أن تلوم الجمهور لأنه يذهب الآن (برغم أنه لم يكن يفعل ذلك في السابق بمثل هذا الفيضان الجارف) ليرى تلك النوعية من الأفلام، وليعيش في حلم يقظة عن انتصار وهمي لأحلامه، بل وجه اللوم أولا للسياق الذي جعل هذا الجمهور يلجأ لذلك، والأهم هو توجيه اللوم لمن استخدم من السياسيين مصطلح "البلطجي" بإفراط بالغ، وربما أيضا لمن يمارسون البلطجة على المسرح السياسي!!
No comments:
Post a Comment