برغم أن اسم النجم حسين فهمي يتصدر عناوين مسلسل "الشك"، وبرغم أن من المفترض أن شخصيته فيه تمثل محورا بالغ الأهمية تدور حوله الأحداث، فإن وجوده كاد أن يخبو كثيرا في معظم لحظات المسلسل. وربما عاد ذلك إلى سيناريو الكاتب أحمد محمد أبو زيد، الذي لم يعط هذه الشخصية الدرامية حقها، لكن ذلك أيضا يعود في جانب كبير منه إلى اعتماد بعض النجوم على حب الجماهير لهم، فلا يبذلون جهدا كافيا في الأداء، وتلك من آفات السينما والدراما التليفزيونية المصرية.
في أحد مشاهد الحلقة الأولى، تكون الابنة الكبرى وسيلة (مي عز الدين) قد عرفت لتوها أنه لن يمكنها أن تصير أما، إلا بعد عملية جراحية سوف تكلفها ما لا تملكه من مال، وتلتقي وسيلة بأمها سامية (رغدة) لتشكو لها همها، بينما يأتي الأب نبيل (حسين فهمي) على عجل ليواسي ابنته بعد أن عرف الخبر. يدخل حسين فهمي إلى موقع التصوير، وبدلا من أن يربت مثلا على كتف ابنته بلمسة خفيفة حانية بمجرد أن يراها، فإنه يجلس إلى الطاولة ليلقي سطور حواره، في نمطية وسطحية بالغتين. إن "الممثل" حسين فهمي هنا لم "يعش" الشخصية، بل النجم هو الذي جاء إلى العمل، مكتفيا بنجوميته السابقة.
للأسف فإن هذا ينسحب على معظم لحظات حسين فهمي هنا، غير أن الحقيقة أيضا أن تلك كانت مهمة المخرج محمد النقلي، الذي كان عليه أن يضيف لمساته الإخراجية الفنية والإنسانية إلى السيناريو، لكنه اكتفى بدوره بأن يكون "منفذا" لما جاء على الورق. ومن الحق القول أيضا أن السيناريو المكتوب لم يساعد حسين فهمي ولا الممثلين الآخرين على ذلك، فلجأوا إلى قدر هائل من المبالغات التي تذكرك بأداء يوسف وهبي وأمينة رزق، وهو السيناريو الذي غلب عليه قدر كبير من الاصطناع، الذي قد يعجب الجماهير التي تعشق الأفلام الهندية، لكنه يخلو من الحياة الحقيقية.
وكل سيناريوهات أحمد أبو زيد (وأبيه محمود أبو زيد) تعتمد على هذا الاصطناع، ولعل القارئ يتذكر مثلا فيلم "العار" (الذي كتبه الأب) والمسلسل التليفزيوني المأخوذ عنه (الذي كتبه الابن)، فهو يحكي عن أسرة مات عائلها، لتكتشف أنه كان في الحقيقة تاجرا للمخدرات، وقد وضع كل ما يملك قبل أن يموت في صفقة، ليجد أبناؤه أنفسهم في مواقف متصارعة من استكمال هذه الصفقة، وهي حبكة كما ترى لا علاقة لها بالواقع من قريب أو بعيد، أو على الأقل بالواقع كما نعرفه. أما الحبكة في "الشك" فهي تقوم على فرضية أخرى: الابنة وسيلة التي حكيت لك عنها هي ابنة لأسرة من طبقة وسطى، تضم الأب نبيل صاحب المكتبة الذي ينتمي لجيل كاد أن ينقرض، والأم سامية التي تعمل ناظرة مدرسة، وبعض الأشقاء والشقيقات، وأضف إلى ذلك كله تنويعة من أزواج الشقيقات وزوجات الأشقاء. وتبدو العائلة بمختلف أطيافها تسير في حياتها اليومية، ويغلب على معظمهم الانتهازية والخيانة، حتى يُلقى حجر في البحيرة الراكدة.
يتمثل ذلك الحجر في المحامي فايق (مكسيم خليل)، الذي يظهر ذات يوم، ليخبر الأسرة أن رجلا بالغ الثراء يدعى قاصد خير مات في الغربة، ليترك في وصيته كل ثروته إلى وسيلة التي يقول إنها ابنته، وإلى الأم سامية التي يبدو أنه كان على علاقة بها. وهكذا تصبح "التيمة" الرئيسية للمسلسل كيف أن المال الذي هبط على الأسرة، أو إحدى بناتها، سوف يحولهم جميعا إلى وحوش، بينما تضيع التيمة الأقوى، التي كان من المفترض أن يكون لها الاهتمام الأكبر، وهي "الشك" الذي ينتاب الأب في زوجته بعد ذلك العمر الطويل، وسوف يدمر حياته تدميرا، بما يذكرك على نحو ما بمسرحية الكاتب السويدي الشهير ستريندبيرج "الأب"، والتي تحولت إلى فيلم مصري بعنوان "العذاب امرأة".
وإذا كان "الشك" الذي تزرعه الزوجة بنفسها في عقل الزوج هو محور المسرحية، فإنه هنا يصبح مجرد مناسبة لبعض سطور حوار زاعقة من جانب حسين فهمي، والكثير من دموع رغدة، خاصة عندما يتحول هذا الشك إلى يقين، مع ظهور نتيجة تحليل البصمة الوراثية، الذي يؤكد أن وسيلة ليست ابنة نبيل. ولأن الغاية تبرر "الوسيلة" (وهذا من بعض أسرار اختيار عائلة الكاتب أبو زيد لأسماء الشخصيات)، فإن وسيلة سرعان ما تتقبل الأمر، بل ترحب به، لأن تلك الثروة الطائلة سوف تساعدها في الحصول على الابن الذي تحلم به. وأيضا لأن كل سيناريوهات عائلة أبو زيد ترمي إلى إقناع المتفرج بأن يرضى بالأمر الواقع، وأن المال لن يجلب سوى الدمار (ولعلك ما تزال تتذكر فيلم "جري الوحوش")، فإن هذه الثروة الغامضة سوف تثير الكثير من الغبار في علاقات أبناء الأسرة جميعا، فوسيلة سوف تترك زوجها زير النساء أدهم (نضال الشافعي)، لكي تتزوج من المحامي فايق الذي كان سببا في هبوط الثروة عليها، بينما يطلق الأب نبيل زوجته، ليتزوج فيما بعد قريبته سعاد (صابرين)، التي تبدو كأنها مصنوعة من الشر الخالص. ناهيك عن شخصيات أخرى، يمكن أن تحذف منها أو تضيف إليها من شئت، مثل الابن الأصغر طارق (كريم أبو زيد، شقيق كاتب السيناريو)، الحالم بأن يكون مطربا "شبابيا"، بينما الحقيقة أنه لا يؤثر في الأحداث من قريب أو بعيد.
وبعد أن يكون "الشك" قد انقشع طوال خمس وعشرين حلقة كاملة، يفاجئك العمل بالمفاجأة التي كان يخفيها عنك، وهي أن فايق – وبمساعدة أدهم – قد اتفقا على تزوير نتيجة تحليل البصمة الوراثية إياها، حتى تؤول الثروة إلى وسيلة، لكن فايق سوف ينحي أدهم جانبا، لكي ينعم بالثروة وحده، خاصة بعد أن نجح في إيداع وسيلة مصحة نفسية، ليثبت – زورا مرة ثانية – أنها غير مؤهلة للتحكم في ثروتها. لكن فايق يلقى مصرعه على يد زوجته الأولى منال (ريهام سعيد)، ويفترض أن يرث ثروته طفله من وسيلة، لكن أدهم يفاجئنا – للمرة الثالثة!! – أن الطفل ابنه، لأنه اتفق سرا مع فني المعمل على تبديل السائل الذي حملت منه وسيلة بالتلقيح الصناعي، لتخرج وسيلة من ذلك كله خاوية الوفاض.
وهكذا ما جاءت به الرياح أخذته الرياح، لينتهي المسلسل باجتماع شمل الأسرة بعد تلك العاصفة. وإن أردت تفسيرا للسبب الذي ترك ذلك المدعو قاصد خير ثروته لوسيلة، فهو تصوره أنها ابنته، إذ كان قد "اغتصب" الأم سامية منذ عقود، لكنها تخلصت من حملها منه قبل أن تتزوج من نبيل!! وهكذا يظل السؤال الدائم لنا حول مسلسلاتنا التليفزيونية: ما هي التيمة الرئيسية بالضبط؟ فغالبا ما تضيع هذه التيمة وسط تفريعات هنا وهناك، فليس "الشك" هو الموضوع المهم هنا، وإن كانت البداية به، لكن العمل سوف يتخبط طويلا في سلسلة لا تنتهي من المؤامرات، التي تدور في الأغلب في المعامل الطبية (!!)، وتصوير البشر على أنهم مجموعة من الوحوش الضارية في غابة الحياة.
مرة أخرى قد يكون مثل هذا المسلسل قريبا إلى "عقل" قطاع لا يستهان به من الجمهور، خاصة ذلك الذي تربى على الميلودراما المصرية والأفلام الهندية، لكن تلك الجماهيرية لا تمنعنا من الاعتراف أولا بأن تلك التوابل الحارقة ما تزال تثير شهية جمهورنا، خاصة إذا تمتع العمل – كما هو الحال هنا – بقدر كبير من تلقائية الحوار برغم اصطناع الأحداث وافتعالها، كما لا تمنعنا هذه الجماهيرية أيضا من الإقرار بأن هذا النوع من الميلودراما يساهم في استمرار تراجع ذائقة الجمهور، الذي يظل مقيدا بتلك الأفكار والمعالجات الدرامية القديمة، التي كانت وما تزال تقول لهم أن المال هو السبب كل الشرور، وأن الفقر نعمة والثروة نقمة، وأن كل المصائب تبدأ دائما من نتائج المعامل الطبية!!
No comments:
Post a Comment