Tuesday, March 06, 2012
أفلام القصص المتعددة: أزمة أم حل؟
مرة أخرى يثور بين النقاد المصريين جدل محتدم حول قضية تبدو بديهية، فمع ظهور فيلم "سينما علي بابا"، الذي أخرجه أحمد الجندي للممثل أحمد مكي، بدا أننا أمام "تجربة" جديدة، ليس فقط على السينما المصرية، وإنما على السينما على الإطلاق!! كانت الفكرة من وراء هذا الفيلم محاكاة شكل لم يعد متوافرا الآن في دور العرض المصرية، خاصة الشعبية منها، والتي كان شعارها "ثلاثة أفلام في بروجرام واحد"، حيث يدخل المتفرج إلى قاعة العرض في ضوء النهار، ولا يخرج منها إلا بعد أن يسدل الليل أستاره.
كانت المفارقة أن تسمع من بعض النقاد – وحتى صناع السينما – تعليقات من نوع أن ذلك يعبر عن "عجز"، لأن الأفلام القصيرة التي يتألف منها الفيلم تعبر عن عدم القدرة على صنع فيلم طويل، وذلك يذكرنا بنكتة قديمة تتساءل عن السبب في أن طبيب الأطفال لم يكمل دراسته ليعالج الكبار!! وفي مجال الأدب والفن لا يعني بالطبع أن كاتب القصة الصغيرة عاجز عن كتابة رواية، أو أن مسرحية الفصل الواحد تدل على أن كاتبها لم يستطع أن "يمطها" إلى ثلاثة فصول، فهذه أشكال فنية لكل منها روحها الخاصة، تماما كما أن الفيلم القصير له مذاقه الذي يختلف عن الفيلم الطويل.
كما قال لك البعض الآخر أنها "بدعة" سرعان ما سوف تختفي، والغريب أن فن السينما كان منذ مولده يأخذ شكل الأفلام القصيرة، التي يتم تجميع العديد منها لتعرض في سهرة كاملة. وبرغم أن ذلك أملته التقنيات المحدودة آنذاك، عندما لم يكن من الممكن صنع أفلام طويلة، التي أصبحت في مرحلة لاحقة هي السائدة، فإن الفيلم القصير ظل محافظا على مكانته خاصة فيما يعرف بـ"سينما الفن" الأوربية، التي ترفض أن تنصاع لمتطلبات السوق وحدها.
يقبل النقاد عندنا مثلا أن يشاهدوا فيلما للمخرج الأمريكي كوينتين تارانتينو، أو لتلميذه روبرت رودريجيز، مثل "قصة شعبية رخيصة" أو "مدينة الخطيئة"، وهي الأفلام التي تقوم على سلسلة من القصص داخل نفس الفيلم، بينما يرفضونها من فيلم مصري رفضا مبدئيا!! وسوف أتوقف معك الآن عند العديد من هذه التجارب العالمية، التي تؤكد رسوخ هذا الشكل، الذي يحمل أسماء عديدة بعضها لا يخلو من طرافة، فهو "الفيلم الباقة"، أو "الفيلم الحافلة"، الذي يحتوي على أكثر من قصة يربطها رابط ما. هناك مثلا رابطة المكان الواحد كما في فيلم "قصص نيويورك" الذي يجمع ثلاثة قصص منفصلة، لكنها ترسم معا لوحات لسكان هذه المدينة التي يقال عنها: "إما أن تقع في هواها أو تمقتها بلا حدود"، تماما كما جاء فيلم "أحبك يا باريس" ليلقي الضوء على زوايا مختلفة بل متناقضة من مدينة النور.
قد يكون الرابط شخصية ما مثل فيلم "أربع غرف"، الذي يحكي أربع قصص مختلفة عن مواقف يعيشها نفس البطل في أربع غرف محتلفة من فندق. والأشهر هو أن يكون الرابط شيئا ما، إنه مثلا "الرولز رويس الصفراء" التي تتنقل من مالك إلى آخر، ومع كل منهم قصة مختلفة، أو يأتي فيلم "قهوة وسجائر"، حيث طاولة يأتي إليها شخصيات مختلفة ووراء كل منهم عالم كامل، أما الأكثر طموحا فهو فيلم "آلة الكمان الحمراء"، الذي يبدأ مع تصنيع هذه الآلة على يد العازف الشهير ستراديفاريوس منذ ثلاثة قرون، لتنتقل من يد إلى أخرى حتى تصل إلى عصرنا.
هناك نماذج أكثر تعقيدا أصبحت تظهر في الآونة الأخيرة، ولا يخلو موسم سينمائي واحد من مثل هذه الأفلام، ففي فيلم "أشياء يمكن أن تعرفها بمجرد النظر إليها" تسع قصص عن النساء، وقد تمتد كل قصة إلى عشر دقائق، لكن كلا منها يتم تصويرها في لقطة متصلة واحدة دون قطع مونتاجي واحد. أما نموذج "ترافيك" أو "كراش" أو "بابل" أو "21 جرام" أو "الساعات" أو عشرات غيرها، فهي جميعا أفلام تضفر القصص المختلفة معا، لتتلاقى وتتباعد كأنها روافد صغيرة تصب جميعا في نهر أكبر. وقد يصبح الفيلم كله عبارة عن "نمر" منفصلة كما في "سحر البرجوازية الخفي"، الذي يحكي بروح كأنها الحلم أو الكابوس أحيانا عن مجموعة من أبناء الشريحة المثقفة من الطبقة الوسطى، يتنقلون من مكان إلى آخر بحثا عن طعام لا يجدونه أبدا.
تؤكد لك كل الأمثلة السابقة على أن هذا الشكل من الأفلام، الذي يقوم على تجميع عدة قصص في فيلم واحد، هو في الحقيقة شكل راسخ من الأشكال الفنية لصناعة الأفلام، وليس عجزا أو بدعة كما يزعم البعض. لكن ما هو موقف السينما المصرية منه؟ لعل شكل "النمر" هو الأقرب في هذا السياق، ومنذ "عنتر ولبلب" تجد سبع قصص متتالية يحاول فيها البطل لبلب (شكوكو) أن ينتصر على غريمه عنتر (سراج منير)، في رهان على سبع صفعات يوجهها الأول للثاني. وكانت الستينيات هي الفترة الذهبية لهذا الشكل في السينما المصرية، ليس فقط بالنسبة للمخرجين الجدد بل المخضرمين أيضا، ومن ينسى مثلا "البنات والصيف" الذي اختار ثلاث قصص لإحسان عبد القدوس ليخرجها عزالدين ذو الفقار وصلاح أبوسيف وفطين عبد الوهاب؟ توالت بعدها أفلام مثل "3 قصص" و"ثلاثة لصوص" و3 نساء" و"3 وجوه للحب"، ليختفي هذا الشكل وإن عاد مؤخرا بصورة أخرى، فأفلام مثل "سهر الليالي" أو "كاباريه" أو "الفرح" أو "معالي الوزير" أو "ديل السمكة" أو "عمارة يعقوبيان" أو "على جنب ياأسطى" ليست في حقيقتها إلا تجميعا لعدة قصص في فيلم واحد.
أين المشكلة إذن؟ إنها تكمن في مفاهيم قاصرة من جانب بعض صناع السينما والنقاد المصريين، الذي يتصورون أن "السينما" هي الفيلم الروائي الطويل وحده وبلا منازع!! إن ذلك لا ينعكس فقط على عدم الاهتمام كما ينبغي بالفيلم القصير أو الطويل المحتوي على أفلام قصيرة، بل ينعكس أيضا في غياب لأشكال فنية مهمة في السينما، فما يزال الفيلم التسجيلي يعاني مثله في ذلك مثل فيلم التحريك (المعروف عندنا باسم الكارتون)، بينما السينما العالمية تصنع نصيبا وافرا منهما كل عام، وأصبحت هذه الأفلام تعرض في دور العرض التجارية كالأفلام الروائية الطويلة تماما، بل إن هناك تجارب بالغة النضج في المزج بين هذه الأنواع المختلفة من السينما، ففيلم "بيرسيبوليس" مثلا فيلم تحريك روائي، ناهيك عن عشرات أفلام التحريك الروائية التي تخرج من هوليوود، كما أن الفيلم الإسرائيلي "رقصة الفالس مع بشير" فيلم تحريك يأخذ شكل السينما التسجيلية، بهدف خلق حالة تشبه الحلم تغرق المتفرج في فكرة الفيلم شديدة الخبث.
ويبقى السؤال: هل الأفلام القصيرة المجمعة تمثل أزمة أم حلا؟ للإجابة عن هذا السؤال ربما كان من المفيد أن نتذكر أن السينما الإيطالية في أوائل الخمسينيات كانت تعاني من خطر مزدوج: الإمكانات المحدودة من جانب، وفيضان الأفلام الأمريكية المبهرة التي انهالت على السوق الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية من جانب آخر، وكان أحد أبواب التغلب على هذا الخطر هو اشتراك العديد من المخرجين (حتى الكبار من قامة روسيلليني على سبيل المثال) في أفلام قصيرة يضمها عرض واحد. وليس سرا أن النهضة التي تشهدها السينما الإسبانية في الآونة الأخيرة سببها فتح الباب على مصراعيه أمام صناع الأفلام القصيرة، التي تتنافس على صنعها الإدارات المحلية في المقاطعات المختلفة!
إلى جانب الفيلم الروائي "سينما علي بابا"، أيا كان الحكم على مستواه الفني، تشهد دور العرض المصرية حاليا تجرية تسجيلية من ثلاثة أفلام قصيرة، هي "الطيب والشرس والسياسي"، للمخرجين تامر عزت وعمرو سلامة وآيتن أمين، وربما يكون ذلك هو القطرة التي تعلن عن اقتراب الغيث. وليس من الغريب أن تجد السينما المصرية أن هذا الشكل الفني يمكن أن يكون أحد الحلول للخروج من الأزمة، وإذا كان هناك خوف من استقبال الجمهور لها، الذي اعتاد على شكل واحد ومحدد من الأفلام، فإن الإصرار سوف يخلق تيارا جديدا في صنعها واستقبالها. إننا – الشعب العربي – هو الذي اخترع سلسلة القصص القصيرة التي يضمها خيط ممتد، وإن كنت في شك من ذلك، عد إلى قراءة "ألف ليلة وليلة"!!
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment