Friday, January 20, 2012
خريطة التمثيل والممثلين في السينما المصرية (1 من 4) ممثلو الشخصيات الثابتة: أبطال حقيقيون لكنهم ليسوا أبطالا سينمائيين
مأساة السينما المصرية المعاصرة تتلخص في عبارة من كلمتين: "البطولة المطلقة"، ذلك المفهوم الزائف الذي انتشر كما النار في الهشيم، فكل الممثلين يسعون إلى العثور على أدوار البطولة التي تدور فقط حول الشخصية التي يجسدونها، خاصة إذا كانت تظهرهم في هالة من الشطارة و"الفهلوة" والوسامة، كأن هذا الفيلم أو ذاك بطاقة يقدمها الممثل لأهل عروس منتظرة، وليس عملا فنيا يحتوي على شخصيات لا علاقة لها بالملامح الأصلية للممثل، وإن كانت تعبر بالضرورة عن شخصيات في الواقع الفني الذي هو في التحليل الأخير انعكاس للواقع الحقيقي.
ينسى ممثلونا أو يتناسون أنه لا وجود لعمل درامي دون أن تكون هناك شخصيات عديدة، منها الرئيسي ومنها الثانوي، بل إن الشخصيات الثانية والثانوية هي الأرض التي تقف عليها الشخصيات الرئيسية، وبقدر صدق وبراعة الشخصيات الثانوية يكتسب الفيلم مصداقية لدى المتفرج. ويمكنك أن تدرك عمق الأزمة التي يعاني منها "فن" السينما في مصر الآن من ندرة الممثلين الذين يؤدون الأدوار الثانوية أو الثانية، حتى أصبح تكرار ظهور القلة منهم مدعاة للسخرية أحيانا (يمكنك مثلا أن تعد عدد الأفلام التي يظهر فيها الآن حسن حسني في دور الأب!)، على عكس الفترة الكلاسيكية لهذه السينما، التي كان فيها عبد الوارث عسر وحسين رياض وعشرات غيرهم يؤدون هذا الدور.
الأبطال الحقيقيون لأي فيلم هم هؤلاء الذين يؤدون ما يسمى "أدوار الشخصيات النمطية"، إن عليهم أن يجسدوا شخصية ثابتة فيلما بعد الآخر، ومع ذلك لابد أن يقدموا قدرا كبيرا من الصدق في هذا الأداء، وتلك هي الصعوبة الكبرى في عملهم. وفي السينما العالمية أصبح من الراسخ الاعتراف والتقدير لمثل هؤلاء الممثلين، الذين قد تفرض عليهم بعض العوامل أن يظلوا محصورين في دور واحد، فقد يكون السبب هو الملامح الجسمانية للممثل (خاصة أن السينما هي فن الصورة والسمات الظاهرة)، فقد يكون الممثل قصيرا أو بدينا أو عملاقا، أو قد يكون وجهه طفوليا بريئا أو ينم عن الشراسة، أو لعله يبدو عليه تقدم العمر برغم كونه صغيرا، كما أن صوته يحدّ أيضا من الأدوار التي يجسدها. وهناك حالات كثيرة كان السبب هو نجاح الممثل في دور بعينه، فأصبح ملتصقا به في معظم حياته الفنية، ولا يقلل ذلك أبدا من موهبته، والأمثلة لا تحصى من السينما الأمريكية، إن ستيف بوشيمي اشتهر بدور المجرم البليد المشاعر والغبي في بعض الأحيان، وبول جاماتي التصق بدور الرجل العاطفي الذي لا تنم ملامحه عن ذكاء متقد، وظل الممثل الشكسبيري المسرحي القدير جيمس إيرل جونز محصورا في أدوار القائد أو المدير الغامض، بسبب صوته الجهوري العميق، الذي أهله أيضا ليقوم بالأداء الصوتي في بعض أفلام التحريك.
لن يكون غريبا أن يجد هؤلاء الممثلون يوما فرصة لامعة لأداء مساحة أكبر من الأدوار، لأن السينما الأمريكية تقدم تنويعة كبيرة من الأفلام، وأصبح بوشيمي وجاماتي الآن من ممثلي الصف الأول أيضا. لكن الأمر يختلف في السينما المصرية، التي لم تعرف هذا التنوع في أنماطها السينمائية، وقد زاد الأمر صعوبة في الفترة الأخيرة، عندما لم يعد هناك إلا نمطان فيلميان هما "الأكشن" والكوميديا وحدهما. لكن تأملا لتاريخ السينما المصرية، حتى وقت قريب، يدل على وفرة هائلة في المواهب التي تقوم بأدوار الشخصيات الثابتة، وسوف نذكر الآن بعضا منها حتى ننعش ذاكرتنا.
ابحث مثلا عن شرير، فسوف تجد استيفان روستي شريرا له مسحة خاصة تكاد أن تقترب من الكوميديا، كما أن هناك علوية جميل كامرأة لا تتحدث إلا شرا! هل تريد فتوة؟ على الفور سوف يتبادر إلى الذهن فريد شوقي ومحمود المليجي (في المرحلة الأولى من حياتهما) وزكي رستم، أما شيخ الجامع فهو مثلا حسن البارودي أو محمد شوقي، والخادمة وداد حمدي، والنوبي علي الكسار، والأبله يبرع فيه عبد الغني قمر أو محمد توفيق، والأمي خفيف الظل عبد الفتاح القصري، والأم فردوس محمد، والشاويش رياض القصبجي، والصعيدي محمد التابعي وعبد الغني النجدي والسيد بدير، حتى أدوار ثقلاء الظل الذين يجسدون عبئا نفسيا على البطل أو البطلة فهناك صلاح نظمي في أدوار الرجال و لولا صدقي في أدوار النساء.
ربما بدا للوهلة الأولى أن هؤلاء وأمثالهم يعانون من سوء الحظ لانحصارهم في أدوار بعينها، لكن الحقيقة عكس ذلك تماما من الناحية الحرفية، فممثل الشخصيات الثابتة قد يجد عملا في عشرة أفلام بينما لا يجد ممثل لأدوار أكبر فرصة إلا في فيلم أو اثنين، كما أن هناك ممثلين برعوا في العديد من الشخصيات الثابتة والمتنوعة أيضا إلى درجة التناقض أحيانا، مثل عدلي كاسب أو فاخر فاخر أو جميل راتب، الذين يمكنك أن تتخيلهم دون عناء في أدوار الأشرار أو الأخيار. الحال اليوم أصبح للأسف الشديد مختلفا تماما، وربما انقلب أيضا على نحو مثير للدهشة، فقد انتقلت الأدوار النمطية إلى من يسمون أنفسهم باسم "النجوم"!!
منذ عقدين أو ثلاثة، لم يكن أحد يتصور أن يصبح الشخص المتخلف عقليا شخصية رئيسية في العديد من الأفلام، وربما يكمن تفسير ذلك في السياق الاجتماعي الذي يعيش فيه الغبي مرتاحا لأنه متسق مع الظروف (!!)، وهكذا ظهرت شخصية لمبي مثلا في فيلم "الناظر"، لتنال استحسان الجمهور، ويمسك محمد سعد بتلابيبها ولا يفلتها من بين يديه أبدا، ويقدم عليها تنويعات عديدة. وبالمثل تبدو شخصية الأم كما أدتها عبلة كامل، تتسم بالفظاظة ولا علاقة لها بالحنان الذي كان من الملامح التقليدية للأم، لتصبح بطلة في "خالتي فرنسا" وغيرها. وينجح "قرموطي" أحمد آدم في مسلسل إعلاني يدعى "سر الأرض" تنتجه وزارة الزراعة، فيصبح بطلا في فيلم "معلهش إحنا بنتبهدل"، ويشتهر أحمد مكي في مسلسل "تامر وشوقية" بشخصية شاب مستهتر، ذي شعر منفوش، اسمه "إتش دبور"، فيصنع له فيلما بهذا الاسم، كما ينقله إلى فيلم "مرجان أحمد مرجان"، ولأن أحمد مكي بارع في صنع هذه الشخصيات ذات الملامح الخاصة، تراه يستعيرها في أفلامه مثل شخصية "الكبير قوي" أو "حزلقوم"!!
الغريب أن تمتد هذه المحاولات إلى شخصيات لا يمكن وصفها إلا بأنها عابرة، مثل وديع وتهامي بطلي إعلانات إحدى الفضائيات التي صنعت لهما فيلما هذا العام طواه النسيان سريعا، ويقال أن في الطريق إلينا شخصيتين معتوهتين اسمهما شبرو وبكرو ظهرا في مسلسل "شارع عبد العزيز"، وفي الأغلب لن يكون لهما الكثير من الحظ. إن ذلك ليس نوعا من التنبؤ، بل إنه التوقع المبني على أبجديات الفن والدراما، فقد تصور صناع الأفلام المصرية وتجارها في الفترة الأخيرة أنه كلما زادت غرابة الشخصية الثابتة (إلى درجة إثارة النفور أحيانا)، ازداد إعجاب الجمهور بها. وهذا المفهوم يعتمد على اعتبار أن السينما أقرب إلى فنون "الفرجة" بالمعنى السلبي للكلمة، مثل السيرك أو صندوق الدنيا. لكن الحقيقة غير ذلك، فالسينما في جوهرها تعتمد على الدراما، في رسم الشخصيات أو بناء الحبكة، وليس الشخصيات بالغة الغرابة.
إن أجمل ما في السينما هو أننا نرى في الأضواء والظلال على الشاشة جزءا من واقعنا، وجزءا من حلمنا، وهذا ما ابتعدت عنه السينما المصرية في الآونة الأخيرة، وهو ما ينعكس أيضا على خريطة التمثيل والممثلين بها، وإذا كان هذا هو حال ممثل الشخصيات الثانوية الآن، فذلك هو مصير باقي أجزاء الخريطة، لا فرق بين "السنيد" أو النجوم والنجمات، فحتى فتيان الشاشة وفتياتها لن يفلتوا من نفس المصير!!
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment