Wednesday, August 10, 2011
مسلسل "سمارة" استنساخ نادية الجندي ونبيلة عبيد!!
"سمارة، زهرة برية نشأت وترعرعت في جو أسود رهيب"، هكذا كان صوت المذيع والمخرج المصري ديمتري لوقا يعلن بعد ظهيرة كل يوم، في الخامسة والربع تماما، ويتجمع المصريون حول أجهزة المذياع في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي حتى تكاد الشوارع أن تخلو من المارة. كانت تلك هي الفترة التي بدأت فيها تقاليد المسلسل الدرامي الإذاعي المصري، التي أصبحت اليوم من بين ذكرياتنا الفولكلورية، وبعد القليل من المسلسلات ذات الطابع البوليسي أو النفسي، مثل "حب وإعدام" و"هل أقتل زوجي؟" و"العنب المر"، جاء مسلسل "سمارة" الذي كتبه محمود اسماعيل، وقامت ببطولته سميحة أيوب ومحسن سرحان، ليؤسس تقاليد مسلسلات العصابات على الطريقة المصرية، التي انتقلت فيما بعد للسينما ثم التليفزيون.
من المفارقات المهمة أن نمط دراما رجال العصابات الأقدم في أمريكا كان وما يزال يضع المجرم في القلب من الحبكة، ولا تحتل المرأة فيه إلا مكانا هامشيا، لكن الدراما المصرية جعلت في الكثير من الحالات البطلة هي الأهم، وكانت في البداية نموذجا للنقاء الذي اضطرته الظروف لأن يتلوث، وفيها قسوة ظاهرة لكن قلبها يفيض بالرقة عندما تجد من يدرك فيها هذا البعد، وهي باختصار ليست "الفاتنة القاتلة" على الطريقة الأمريكية، لكنها الضحية، أو "الزهرة البرية التي نشأت وترعرعت في جو أسود رهيب"!
لا ندري على وجه الدقة السبب وراء اتجاه صناع الدراما التليفزيونية المصرية للعودة إلى "سمارة"، وإن كنا نستطيع أن نخمنه، فقد مر أكثر من نصف قرن حتى لا يكاد أغلب الجمهور اليوم أن يعرف من هي "سمارة" كما كانت لدى الجيل الأقدم. دعنا نؤكد من البداية أننا لسنا ضد إعادة "تيمة" ما عشرات المرات، إذا كانت تُقدم في كل مرة ومعها تفسير فني جديد، يلقي الضوء "المعاصر" على حكاية قديمة، وربما كان أشهر "المقتبسين" هو شكسبير، الذي صنع معظم مسرحياته عن قصص سابقة عليه، ومع ذلك استحق أن يكون المؤلف الدرامي الأول في تاريخ الإنسانية.
فلنفترض أنه سحر الحدوتة إذاً هو الذي حدا بكاتب السيناريو والحوار مصطفى محرم، والمخرج محمد النقلي، أن يعيدا روايتها، ويضعاها كما ورد في صدر الحلقة الأولى في "القاهرة 1945"، ليبدآ كل حلقة لثوانٍ بالأبيض والأسود لينتقلا بعد ذلك للألوان. وبرغم الحلقات الثلاثين الممتدة عبر شهر كامل، يدور المسلسل في عالم درامي ضيق خانق، بين الحي الشعبي الذي تقيم فيه سمارة (غادة عبد الرازق)، والحي الراقي الذي أتى منه البطل كمال (أحمد وفيق)، وإذا كان من الخيال الجامح أن تلتقي مثل هاتين الشخصيتين في الواقع، فإن المسلسل يجمعهما في علاقة غرامية مشبوبة، تظل تراوح مكانها طوال الوقت دون أن تتحرك قيد أنملة، لكنها تتيح للبطلة أن ترقص وتمثل وتضحك وتبكي.
يجب أن تصدق منذ اللحظة الأولى أن سمارة تملك من الجمال ما يجعل "كل" الرجال يقعون في حبها، بل إن من يخطبونها يلقون مصرعهم بشكل غامض، وسوف نعرف أن وراء هذه الجرائم رجلين مزواجين من "أهل الحتة"، الأول هو المعلم سلطان (حسن حسني)، تاجر المخدرات الكبير الذي يتخفى وراء تجارة الفاكهة، ويتعامل مع رجل غامض يطلقون عليه "البك الكبير" هو الذي يجلب المخدرات إلى البلاد، أما الثاني فهو المعلم فتوح (سامي العدل) الذي بدا صبيا للأول، ثم تحول بدوره إلى تجارة المخدرات أيضا وراء قناع تجارة الخضروات.
وسوف يظل سلطان وفتوح غريمين في حب سمارة، وإن كانت تجمعهما الجريمة. وبينهما تقف بطلتنا تغازل هذا مرة وذاك مرة، بدافع من أمها (لوسي) النهمة إلى المال بأي ثمن، ويصطنع لها المسلسل قصة في الماضي إذ عشقها والد سمارة (زكي فطين)، ابن الحسب والنسب، الذي ترك أسرته من أجل محبوبته الراقصة وضيع عليها ثروته، وأصبح اليوم مدمنا على الخمر، مستذلا مهانا من الأم التي لا تتورع عن أن تتخذ لنفسها رجلا آخر تعيش في حماه، مثل المجرم العريق في الإجرام صالح أبو شفتورة (ضياء عبد الخالق)، الخارج لتوه من السجن، ويذكرنا اسمه بالاسم المستعار الذي اتخذه ضابط الشرطة المتنكر في المسلسل الإذاعي القديم: سيد أبو شفة!!
على الجانب الآخر من هذا العالم الدرامي يقيم الأغنياء من رجال السياسة، الذين يتحدثون عن الفضيلة وإن كان يجب أن تتوقع أن يسفروا عن نقيضها. وفي القلب من هذه الطبقة يوجد عبد المجيد بك (عبد الرحمن أبو زهرة) صاحب المركز المرموق في حزب الشعب، الذي يرأسه فهمي باشا (عمر الحريري)، لكن ما يهمنا أن عبد المجيد هو والد كمال، الأستاذ في الجامعة، والمشغول ببحث عن تأثير البيئة في سلوك البشر، والذي يذهب إلى الحي الشعبي الذي تقيم فيه سمارة، لأنه الحي المشبوه الذي مُنعت نساؤه من ممارسة الرذيلة، ليذهب بطلنا ليدرس كيف ترك ذلك تأثيرا على أبناء الحي، أو بالأحرى بناته.
تأتي هذه المعلومة في سياق الحوار مرة أو مرتين، لكنك لن تراها أبدا مجسدة على الشاشة، فكمال لن ينشغل لحظة واحدة بهذه الدراسة المزعومة، والسبب: أنه وقع في حب سمارة في اللحظة التي وقعت عليها عيناه!! تأمل كيف يعبر المسلسل عنها: تقع سمارة أمام سيارة كمال، فتصرخ وتولول، وينزل هو ليرى ما حدث، وفجأة ينطلق سهم "كيوبيد" ليصيب القلبين، وتصدح الموسيقى معلنة عن ميلاد الحب، فقد قررت سمارة أن تعشق هذا الفتى، كما سوف ينسى هو خطيبته ويهجرها من أجل سمارة.
أرجو ألا تسيء الظن ببطلنا، فهو لن ينسى دراسته، لكنه سوف يجعل سمارة موضوعا لها، لينتقل المسلسل في بعض الحلقات لاقتباس "بيجماليون" أو "سيدتي الجميلة"، حين يأخذ كمال محبوبته إلى صالون التجميل، ويعلمها كيف تتخلى عن تعبيراتها السوقية لتستخدم قواعد المجتمعات الراقية، ويذهبان إلى منزل أسرته حيث تقنعهم بالفعل أنها زميلته في الجامعة. لكن المسلسل لا يكتفي بهذا الاقتباس وحده، ولك أن تتخيل مثلا أنه سوف يمضي أيضا لتقليد "خللي بالك من زوزو"، حين تقرر سمارة أن تصارح أسرة حبيبها بحقيقتها، فتفاجئ الجميع برقصة "هز بطن" مثيرة، وبرغم أن الموقف يشي بأنه دليل على شعور سمارة بالهوان، فلن تتوقف إلا بعد أن تؤدي الرقصة كاملة!!
بكلمات أخرى أوضح فإن المسلسل لا يدور حول شخصية فنية تدعى "سمارة"، بل حول غادة عبد الرازق، الممثلة والمؤدية التي قررت أن تكون النسخة الجديدة القديمة من نادية الجندي ونبيلة عبيد، في دور المراة التي تجسد "ملكة النحل" القاتلة، يسعى إليها كل الرجال، وفي الوصول إليها هلاكهم، كما أن الدراما المصنوعة تمنحها دائما فرصة للانتقال من الحضيض إلى القمة لكي تعود إلى الحضيض في النهاية، وهو ما يمنح النجمة فرصة لاستعراض "الإمكانيات"، خاصة النواح والعويل من جانب، والدلال والرقص من جانب آخر.
ترك هذا الاصطناع في الكتابة أثره الفادح على التمثيل، ليأتي في أسوأ حالاته على الإطلاق، ولن تصدق مثلا أن لوسي التي قدمت أفضل أدوارها مع داوود عبد السيد في "سارق الفرح"، أو أسامة أنور عكاشة في "أرابيسك"، هي ذاتها التي تؤدي هنا بشكل مفرط في المبالغة: تنطق ببطء وصخب وتشيح بالأيدي وتنظر بتحديق، ولن يفلت أي من الممثلين الآخرين من هذا الأسلوب، فهم يقفون في صف واحد كأنهم على خشبة مسرح، وينتظر أحدهم في صمت وسكون حتى يأتي دور سطر حواره فإذا به يتحرك وينطق فجأة!!
كانت "سمارة" القديمة رمزا للبراءة التي وضعتها الظروف في "جو أسود رهيب"، لذلك أصبحت "فولكلورا" لأن المتلقي تعاطف معها وأراد لها أن تنجو من هذا السياق، وحتى عندما ماتت في نهاية المسلسل الإذاعي أحب الجمهور أن تنجو ليظهر لها جزء ثان. أما الحال في المسلسل التليفزيوني، فالبداية والنهاية هي "الفرجة" وليس التعاطف، وتلك من آفات الدراما المصرية في الفترة الأخيرة، لذلك إذا ماتت سمارة في نهاية الحلقات لن يتأثر المتفرج، ولن يشعر بالحنين إلى أن تنجو مثل هذه البطلة من الموت!!
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment