Monday, September 27, 2010

إسرائيل تغسل جريمتها فى فيلم "لبنان" ونحن نغرق فى وحل المسلسلات التليفزيونية

بينما كان الشعب العربى، من المحيط إلى الخليج، مشغولا من قمة رأسه حتى إخمص قدميه، فى متابعة المسلسلات الرمضانية وبرامج حوار "العوالم"، لا يكاد أن يلتقط أنفاسه منها إلا وتطارده الصحف الفنية بأخبار عنها، بينما كان ذلك كله يحدث، كان الكيان الصهيونى "الصغير" المزروع كالخنجر فى قلب الوطن العربى يعرض فى دور العرض السينمائية الجماهيرية فى أمريكا فيلما يحمل اسم "لبنان"، وهو الفيلم الذى يذكر موقع "ميتاكريتيك" المتخصص فى جمع مقالات أشهر النقاد الأمريكيين أن الفيلم حصل على سبعة وثمانين فى المائة من استحسان النقاد، وهى درجة لا يصل إليها إلا القليل من الأفلام فى العالم كله.
ما يعنينا هنا هو حالة الغياب عن العالم – وعن الوعى أيضا – التى نعيش فيها منذ زمن طويل يزيد الآن عن ثلاثة عقود، غياب أشبه بالمؤامرة أو قل أنه مؤامرة بالفعل، أن تغيب مصر عن القيام بدور مؤثر فى صناعة أقدارها، لينفرط العقد من بعدها وتصبح بقية الدول العربية دون تأثير فعال، وإن ظهر لك من بين أبواق السلطة من يقول لك أن مصر حاضرة، بدليل استدعائها بين الحين والآخر لتقوم بمهام توكل إليها، فأرجو أن تذكّره بنوعية هذه المهام، التى تشبه دور الوسيط أو السمسار، وكله بثمنه ... ولتقارن هذا الغياب من جانبنا بالحضور القوى للكيان الصهيونى، الذى يفرض شروطه، ,وإذا كان عاجبكم بقى، بل إن "إسرائيل" ما تزال حتى اليوم ترفض ذلك الشىء الذى لم يحدث من قبل فى التاريخ، ويحمل اسم "المبادرة العربية"، التى تعلن الاستعداد التطبيع الكامل مع العدو من جانب الدول العربية، لكن ماذا يمكن لك أن تتوقع وإسرائيل لا تخشى شيئا على الإطلاق من حكام هذه الدول، فما حاجتها إلى أن تجلس معها وتتفاوض؟
من يريد التفاوض ويملك زمامه لابد أن يملك قوة ما تجعل موقفه التفاوضى قويا، أما وقد ضيع حكام الدول العربية كل مقومات القوة المادية والمعنوية فعلى أى أساس سوف يتفاوضون؟ فى المقابل تعمل "إسرائيل" فى كل لحظة على بناء قوتها على كل المستويات، والسينما أحد أركان هذه القوة، إنها تنتج كل عام حوالى عشرة أفلام فقط، لا تزيد ميزانية الواحد منها عن مليون دولار (أرجو من صناع أفلامنا أن يحسبوا الفرق بين ميزانيات أفلامنا وأفلامهم، ثم يقارنوا الفرق بينها من ناحية التأثير الفنى والسياسى)، بل إن هذه المليون دولار لكل فيلم يتم جمعها من جهات عالمية عديدة، من بينها صندوق دعم السينما الإسرائيلية، ومن هذه الأفلام العشرة، قليلة التكاليف، يبرز فيلمان أو ثلاثة، تطوف العالم وتحصد الجوائز أو الترشيحات، فى الوقت الذى تقدم فيه بالطبع للعالم الرؤية الصهيونية وتكرسها، وأرجو أن تتأمل كيف أن فيلم "لبنان" الذى سوف نتحدث عنه الآن قد تنافس بشدة (داخل الأوساط السينمائية الإسرائيلية) مع الفيلم الإسرائيلى "عجمى" على الوصول إلى مسابقة الأوسكار فى العام الماضى، وكان القرار أن يعطوا الفرصة لفيلم "عجمى" (الذى وصل بالفعل إلى قائمة الأفلام الخمسة التى تتسابق على جائزة أفضل فيلم أجنبى)، والسبب هو أن فيلم "لبنان" قد حصل بالفعل على جائزة الأسد الذهبى فى مهرجان فينيسيا السينمائى، فلماذا لا تعطى "إسرائيل" الفرصة لفيلم ثانٍ لكى يقوم بمهمة الدعاية لها؟
أصبح فيلم "لبنان" متاحا على شبكة الإنترنيت، وبترجمة باللغة العربية أيضا، فماذا ننتظر لكى نرى السبب فى أنهم يحققون كل هذا النجاح وبأقل التكاليف المادية؟ أكرر أننا غائبون عن الوعى، وعن الفعل، وحتى بعيدا عن السينما الإسرائيلية التى يقول البعض منا أن رؤية أفلامها قد تحمل اتهاما بالتطبيع، فهل بدا من جانبنا أى اهتمام كافٍ بالأفلام من بلدان العالم المختلفة التى تفوز بجوائز عالمية؟ هل عرفنا لماذا تفوز؟ هناك ياقارئى العزيز هوة شاسعة بين السينما المصرية المعاصرة والسينما فى العالم كله، ولست أتحدث فقط عن أفلامنا التجارية التى تنتمى إلى تاريخ ما قبل اختراع السينما (بالكثير إنها تشبه صندوق الدنيا)، بل أشير أيضا إلى الأفلام "المثقفة" التى ما تزال تقف عند أنطونيونى وفيسكونتى وأفلامهما منذ نصف قرن ... إننا لم نتوقف فقط عن صناعة الأفلام المعاصرة بحق، لكننا توقفنا أيضا عن مشاهدة الأفلام المعاصرة.
أرجو أن تتاح لك فرصة أن ترى فيلم "لبنان" لتعرف كيف تُصنع الأفلام، بقدر كبير من الفن، وقدر قليل من التكاليف، والأهم هو تضمين "الرسالة"، وهى هنا رسالة سياسية بالقطع، تتخفى تحت نسيج "إنسانى" دفع بعض النقاد الأمريكيين أن يصف الفيلم بأنه "مناهض للحرب"، برغم كونه من ناحية الشكل ينتمى على نحو صريح لنمط "الأفلام الحربية". منذ نزول العناوين يُدخلك الفيلم إلى عالمه الكابوسى: شاشة سوداء تنزل عليها التيترات، وموسيقى تصدر صوتا يشبه الأزيز المتصل، ثم تأتى لقطة البداية، حقل من حقول عباد الشمس، إنه خال تماما بلا حركة، غير أن ريحا تهب من عمق الكادر وتتجه إلى مقدمته لتهتز أعواد الزهور فى موجة متصلة حتى أن المتفرج يشعر أنها سوف تجتاحه أيضا.
تلك اللقطة واحدة من بين لقطات "خارجية" ثلاث فقط طوال الفيلم، أما الفيلم كله فيبدو كأنه مؤلف من لقطات "داخلية"، حيث نجد أنفسنا مع أربعة جنود إسرائيليين شبان داخل دبابة وهم فى مهمتهم لمصاحبة فرقة من المشاة فى حرب لبنان الأولى، نعرف ذلك من العنوان: "6 يونيو 1982 الساعة 3 صباحا، اليوم الأول من حرب لبنان". تأمل اللقطة الأولى لهم – ولنا – داخل الدبابة، هناك ماء فى قاعها (ياعينى إنهم يحاربون بأسلحة قديمة!!)، ونرى فيها صورة منعكسة ومقلوبة لوجه جندى، عندما يضع قدميه على أرضها يهتز الماء فتتشوش الصورة. هذا العالم الكابوسى يقطنه أربعة من الجنود، يقدمهم لنا الفيلم فى لمسات خاطفة لكنها كافية تماما لنعرف عنهم الكثير، فأغلبهم تم استدعاؤه للخدمة العسكرية الاحتياطية على عجل، وبعضهم ينتظر انتهاء خدمته بعد أيام، وبعض ثالث يذهب إلى تلك الحرب فى مهمته الحقبقبة الأولى.
هناك قائد المجموعة عاصى (عيتاى تيران)، والمدفعجى شموليك الذى يقول كاتب الفيلم ومخرجه صامويل موعاز أنه يجسد شخصيته وتجربته الحقيقة خلال الخدمة العسكرية (يقوم بالدور يوعاف دونات)، ثم المسئول عن شحن المدفع هيرتزيل (أوشرى كوهين)، وأخيرا سائق الدبابة إيجال (مايكل موشونوف). سوف تلاحظ على الفور أن وجوه الممثلين الشبان – البارعين بالفعل – تنضح بالبراءة، والخوف، والحيرة، إنهم لا يعرفون لماذا هم هنا، فى جنوب لبنان، داخل دبابة عتيقة الطراز، مكتوب على جدارها الداخلى عبارة تحمل مزيجا من السخرية المريرة واليقين معا: "الرجل مصنوع من الفولاذ، أما الدبابة فهى ليست إلا قطعة من الحديد". تأتى المفارقة الساخرة فى العبارة فى البداية من التناقض مع ما يبدو من هشاشة الجنود، لكنها تصبح حقيقة عندما يعيشون أهوال ساعات قليلة من الحرب فلا يجدون مناصا من أن يصبحوا كالفولاذ بالفعل، لكنه فولاذ صهيونى بطبيعة الحال!
أنت طوال الفيلم داخل هذه الدبابة، لتعيش حالة توحد كامل مع الشخصيات (أرجو أن تقارن هنا أيضا مع أوهام صناع أفلامنا عن أن الفيلم "الحربى لابد أن يحتوى على مشاهد "ملحمية"!!)، وإذا أتيحت لك رؤية العالم خارج الدبابة فمن خلال منظارها (بالطبع يتم تصوير مثل هذه اللقطات خارجيا لكن توضع على فتحة الكاميرا شبكة تمثل أداة تحديد الهدف، فيستمر شعورك بأنك داخل الدبابة). والصلة بين "الأبطال" والعالم الخارجى هى جميل (زوهار شتراوس)، قائد فرقة المشاة التى تحميها الدبابة، فهو يدخل أحيانا إليهم ليوجه إليهم التعليمات أو اللوم، ويقودهم إلى قرية لبنانية يفترض أن الطائرات قد "مسحتها من على الخريطة" كما جاء فى نص الحوار، لكن المهمة لا يمكن أن تكون بهذه السهولة وإلا لم يكن هناك داعٍ بالطبع لصنع أى فيلم!!
سوف أتوقف معك عند بعض اللحظات الفاصلة فى الفيلم لأتركك تشاهده بعدها بنفسك: هناك أوامر بإطلاق النيران على أى هدف يقترب ولا يستجيب للتحذير بالوقوف، وتظهر سيارة مدنية تنطلق نحو فرقة المشاة والدبابة، ويتردد المدفعجى شموليك فى إطلاق القذيفة عليها، إنه يرتعش فتلك هى المرة الأولى التى يصوب فيها إلى هدف حى بعد انتهاء تدريبه على التصويب على براميل، لكن تردده يسفر عن كارثة، فالسيارة تحمل انتحاريين ويؤدى انفجارها إلى موت أحد الجنود، ويتوقف الفيلم ليعرض مشاهد مرعبة لمحاولة إنقاذ الجندى دون جدوى، وتكون النتيجة إدخال جثة الجندى إلى الدبابة لحين قدوم الطائرة المروحية التى سوف تحملها، فيزداد الشعور الكابوسى عمقا. إن هذا التردد من جانب الجندى الإسرائيلى سوف يكون ذريعة لأن يطلق دون تردد قذيفته التالية مباشرة على شاحنة صغيرة يكتشف أنها تحمل دجاجا، وبينما يصرخ سائقها العربى من الألم بعد انفصال ذراعه عن جسده، فإن جميل – قائد الفرقة – يطلق عليه رصاصة "الرحمة" لينقذه من آلامه!!
عندما تصل الفرقة والدبابة إلى القرية يقدم لك الفيلم أطراف الصراع، لتكتشف إن الجيش الإسرائيلى ليس طرفا أصيلا فيه!! تأمل المشهد التالى: يصيح جميل بأن إرهابيين اختطفوا رهائن فى شقة بالدور العلوى لبناية لم يبق منها إلا أطلال، يتوجه منظار الدبابة إلى الشقة، ونرى على الحائط لوحة مائلة متدلية للعذراء مريم والطفل يسوع المسيح. إذن فالرهائن عائلة مسيحية، ويلقى الزوج بنفسه من أعلى هربا لتبقى الزوجة وطفلة صغيرة، وبالضرورة فإن الإرهابيين مسلمون، يهدد الإرهابيون بقتل الرهائن، وتطلق الدبابة قذيفة فى اتجاه الشقة فتدمرها، وتخرج المرأة مذهولة وقد فقدت طفلتها ... إنه مشهد يدمى القلوب بالفعل، الأم الملتاعة (ريموند أم سالم) تهذى وتريد عودة ابنتها، بينما يحاول جميل تهدئتها، وهى فى هذيانها تسير بين النيران فيندلع اللهب غى قميص نومها، ينزعه عنها جميل بقوة فتصبح عارية تماما، لكنه "يسترها" على الفور بملاءة، لتختفى بعد ذلك من الفيلم، لكن بعد أن ترك فى المتفرج أثرا لا يمحى بأن الجيش الإسرائيلى جاء إلى لبنان لـ"ينقذه"، حتى لو كان ذلك يتكلف التضحية!! هل تتصور أن تلك الرسالة هى التى تصل إلى المتفرج فى العالم كله؟!!!
إن ذلك سوف يتأكد عندما يتم أسر جندى سورى (دودو تاسا) ووضعه فى الدبابة أيضا، ليظهر أحد أفراد ميلشيات الكتائب (أشرف برهوم) ليطالب بتسليم الأسير له، وفى حوار بينهما بالعربية (لا يدرك الجنود الإسرائيليين محتواه) يصدر الكتائبى فحيحا وهو يتهدد السورى بأقصى درجات العذاب. وإذا كان الكتائبى يوحى للفرقة الإسرائيلية بأنه سوف يدلها على الخروج من المتاهة التى وصلت إليها فى القرية اللبنانية، فإنه لا يفى بوعده بعد أن يحصل على الأسير، ويترك الفرقة والدبابة فى مكان مجهول، لتبقى فى حالة انتظار أن ترسل لها القيادة من ينقذها. (كأن ذلك ينفى بشكل ضمنى تعاون الإسرائيليين والكتائبيين فى جريمة صابرا وشاتيلا!!). أخيرا تأتى لقطة خارجية: شموليك يفتح غطاء الدبابة وينظر إلى الحقول، ثم اللقطة الأخيرة، نفس حقل عباد الشمس كما فى بداية الفيلم، ولكن تقف الدبابة فى عمق الكادر ساكنة وحيدة فى هذا الفضاء الشاسع.
هذا هو الفيلم الإسرائيلى الثالث فى السنوات الأخيرة عن حرب لبنان الأولى، بعد "بوفورت" (قلعة الشقيف)، و"فالس مع بشير"، تتنوع فيها التجارب الفنية، لكنها تعيد نفس اللحن الذى بدأته السينما الأسرائيلية منذ نهاية الثمانينيات، حين عرفت الصهيونية أن عليها – إلى جانب الأفلام الدعائية المباشرة مثل أفلام ميناجم جولان وجلوباس – أن تقدم أفلاما تختفى فيها الدعاية وراء مزيج من التجريب الفنى المبتكر، ونزعة وجودية تجعل البطل أو الأبطال فى حالة تساؤل أو قلق أو ألم، لكنها فى جوهرها ما تزال تحافظ على الجوهر الصهيونى: اليهود فى "إسرائيل" فى خالة خوف دائم، لأنهم يعيشون فى جزيرة داخل بحر من "الإرهاب" العربى، سواء كان موجها لإسرائيل أو متبادلا بين العرب أنفسهم، والبطل الإسرائيلى وحده هو الذى يعرف القلق، إنه وحده "الإنسان"، لذلك فإن قدره أن يصبح مثل الفولاذ!!
من ناحية الشكل السينمائى، فإنه يؤكد على تجربة الحصار (الحصار هنا ليس حصار العدو الإسرائيلى للبنانيين، وإنما معاناة الإسرائليين أنفسهم من الحصار فى لبنان، لكن الفيلم يتجاهل أن يقول لنا لماذا هم هناك أصلا!!)، فالزمن الفيلمى يقترب كثيرا من الساعات القليلة للزمن الواقعى، والحس التسجيلى الحاد هو أسلوب الفيلم، واللقطات داخل الدبابة قريبة أو متوسطة (أرجو ألا يتصور القارئ أن ذلك يحكمه "التصوير داخل دبابة"، فالتصوير الفعلى يتم بالطبع داخل ديكور يحاكى الدبابة)، وشريط الصوت مؤلف من مؤثرات طبيعية، مثل الصوت المعدنى لحركة الدبابة أو منظارها، وصوت الانفجارات، وحين تظهر الموسيقى ففى شكل أزيز يعمق من الإحساس الكابوسى.
ذلك هو ما يصنعه العدو الإسرائيلى من أفلام، فبرغم القوة المادية والسياسية التى يتمتع بها فى ظل الضعف والهوان العربيين، فإنه ما يزال يضع مشروعه نصب عينيه، ولا يتخلى عنه لحظة واحدة، ويستخدم كل ما لديه من وسائل لتحقيقه، بما فى ذلك صنع أفلام تبهر العالم بفنها الذى لا يمكن أن تتجاهله. قل لى إذن ما هو مشروعنا القومى الآن، وما هى أولوياتنا، وما الذى نساهم به فى العالم، سواء على المستوى السياسى أو الثقافى. لكن الحقيقة أننا غائبون عن العالم وعن الوعى، والله وحده يعلم متى نفيق، وإن كانت مسئولتنا الإنسانية أن نعرف "كيف" نفيق، على الأقل لنسترد إنسانيتنا المهدرة، فى الوطن وخارجه على السواء.

1 comment:

Ahmed Gharib said...

الإسرائيلي "ما يزال يضع مشروعه نصب عينيه، ولا يتخلى عنه لحظة واحدة، ويستخدم كل ما لديه من وسائل لتحقيقه" هذا فرق أساسي عند المقارنةاتفق معك فيه يا دكتور أحمد، لكن مقالك يثير كثيراً من النقاط، مثل هوس التفكير في الجوائز، والذي ساهم في تعميق هيكلية للأفلام المصرية دعمت ابتعاد الجمهور عن الأفلام الجيدة.
القصة الجمية، الحكاية السينمائية الحلوة لا تحتاج إلا لإعتراف من الجمهور المصري لتصل إلى خارج الحدود المصرية. كنت أتابع الشهر الماضي مهرجان تورنتو السينمائي، وهو من المهرجانات الديموقراطية، حيث يمنح أهم جوائزه بناء على تصويت الجمهور، إلى جانب جوائز (طبقة ثانية) من لجنة تحكيم، وكانت اختيارات الجمهور في الجوائز سواء للفيلم الروائي، أو التسجيلي، عاكساً منطقياً لما يشغل بال الناس، أو على الأقل الطبقة الواعية والفاعلة في المجتمع. والملفت أن الأوسكار أصبح يترشد بجائزة جمهور مهرجان تورنتو إلى حد كبير. بل إنه يتم رصد ترتيب الأفلام وفقاً لتصويت الجمهور عند شن حملات الدعاية لجوائز الأوسكار، وقد لاحظت أن الناس تنحاز للحكاية البسيطة، الإيجابية، التي يرون فيها ما يشجعهم على تجاوز عائقاً حياتياً.
في المهرجانات الكبرى، وقد شاهدت ذلك في مهرجانين، شاهدت يسري نصر الله، وعاطف حتاته في مهرجان لندن، وغيرهما من السينمائيين العرب ومن القضايا العربية، ثمة إقبال غير طبيعي على محاولة فهم ما يحدث في مركز العالم (الشرق الأوسط)، لككنا لا نجيد طرح قضايانا، في السياسة قبل الفن، لازلنا بحاجة لمستشرق يقول لنا (لماذا لا تتكلموا عن كذا؟) فنبدأ العمل. أو نفكر بعقلية مستشرق، كما أشعر أن فيلماً كـ "المسافر" فعل في نفسه. نحن بحاجة لننظر إلى إنساننا البسيط العربي، بأحلامه وآماله، لنأتي بحكاية لطيفة نستمتع ونحن نرويها ويستمتع معنا الأخرون لسماعها ومشاهدتها.
الجيل الحالي من الإسرائليين أكثر استعدادا لمناقشة وضعهم الغريب، دولة الحرب الدائمة، وهذا أمر خطير، لأن عنصر القوة الوحيد في قضية العرب مع إسرائيل هو الذاكرة، ذاكرة فلسطين، والإسرائيليون الآن يبنون ذاكرتهم الخاصة، وليس انتصارات عسكرية.
الفن لدينا صراع على التوريث، الفنان يصارع لوجوده وتأمين وجود أبناءه أو شلته، كيف انتقلنا بسهولة لهذا الدرك؟ هذا سؤال نقدي أتمنى أن تعينني على الإجابة عليه.
لازلت ألح على ضرورة دراسة طبقة صناع الأفلام وما يمثلونه، وربما أكون أحد المقصرين في تطبيق ذلك وتقديم إسهاماً في هذا المجال، يوضح من هم من يمثلون السينما المصرية. شكراً على مقالك دكتور أحمد لقد أثار في رغبة في التعبير.