نحن نصنع أفلاما، لكن ليست لدينا صناعة سينما! تلك هى
الحقيقة المريرة، وأبسط دليل عليها أننا نختزل السينما إلى نوع واحد منها، هو
الفيلم الروائى الطويل، الذى لابد أن يكون تجاريا، أما الأفلام التجريبية التى
ترتاد أشكالا ومضامين جديدة، والسينما التسجيلية، وأفلام التحريك بأنواعها
المختلفة، فلا مكان لها، لأنه لم يعد هناك من يرعاها، رغم أننا كنا نملك يوما
مركزا للأفلام التجريبية تحت إدارة الفنان السينمائى شادى عبد السلام، وخرج من
معطفه مخرجون كبار مثل خيرى بشارة وداود عبد السيد.
تقلص مفهوم صناعة السينما عندنا يوما بعد يوم فيما يشبه
فيلما من "كوميديا الأخطاء"، تتوالى فيه السخريات واحدة بعد الأخرى حتى
بات مفهوما هزيلا، ولا يكاد وزير الثقافة أن يذكر السينما إلا فى سياقين: الأول هو
أن ينصح السبكى بصنع أفلام ذات مضامين جادة (ويبدو أن أثر ذلك تجلى واضحا من تحول
الممثل محمد رمضان من دور البلطجى إلى دور الضابط، بنفس القدر من العنف السينمائى)،
والثانى هو أن تسترد وزارة الثقافة بعض ممتلكاتها التى أصبحت مع الزمن خاضعة
للشركة القابضة للسياحة وأشياء أخرى (دون أن نعرف ماذا سوف نفعل بهذه الممتلكات
بعد استردادها).
وأصبحنا عاما بعد عام نتحسر على انحدار السينما المصرية،
الذى يتجلى فى تقلص متزايد لعدد الأفلام، وننسى أنها – كصناعة – مرتبطة بعوامل بالغة
الأهمية، لعل أهمها هو أن الأسرة المصرية – التى لم تعد تجد نفسها فى الأفلام – لا
تملك نسبة من ميزانية إنفاقها على الذهاب إلى السينما، فى ظل تناقص عدد دور العرض،
واختفائها من الأحياء والضواحى بالقرب من المتفرجين، وصعوبة المواصلات، والإنفاق
الجنونى على الدروس الخصوصية، وما يتبقى للترفيه يذهب الآن إلى الهواتف الذكية
وغير الذكية، والاتصالات بكافة أنواعها.
كل ذلك ولم نتحدث بعد عن مشكلة الاحتكار، التى تجعل
توزيع الأفلام وعرضها فى يد مجموعة صغيرة، تُجرى اتفاقات ومفاوضات لرفع إيرادات
فيلم ما والخسف بإيرادات فيلم آخر. كما لم نتحدث عن صناعات أخرى مرتبطة على نحو
وثيق بالأفلام، لكنها غائبة بالنسبة لصناعتنا السينمائية، مثل البيع المجزى
للشبكات التليفزيونية، وسوق أقراص الدى فى دى، وإعادة إحياء الأفلام القديمة مع
ذكرى إنتاجها، ناهيك عن صنع سلع أخرى مثل دمى الأطفال أو الملابس التى ترتبط بفيلم
ناجح، على نحو ما تصنع سينما هوليوود على سبيل المثال.
لا وجود لذلك كله حتى فى المجال الوحيد الذى
"تلعب" فيه السينما المصرية، وهو الأفلام الروائية التجارية الطويلة،
فما بالك بنوعيات أخرى من الأفلام ليست أقل أهمية بحال؟ ودائما ما يثار عند هذه
النقطة جدل حول إذا ما كان ضروريا على "الدولة" أن تتدخل لحل تلك
الأزمة، ودائما أيضا ما يلجأ أصحاب فكرة عدم تدخل الدولة إلى رفع شعار "حرية
التعبير" و"حرية السوق"، التى تعنى بمعنى أدق فى هذا السياق أن
نترك السمك الكبير يأكل السمك الصغير، بينما كل "الدول" تتدخل إذا ما
تعرضت صناعة ما للانهيار، سواء بالتشريعات، أو الدعم المالى.
فى كل تواريخ صناعات السينما فى العالم، فترات كان على
الدولة التدخل بشكل ما لإنقاذ صناعة السينما، لا فرق فى ذلك مثلا بين فرنسا أو
البرازيل أو حتى إسرائيل. فإذا كانت فرنسا تقتطع من حصيلة إيرادات الأفلام
التجارية حصة لإنتاج أفلام سينمائيين مغامرين وتجربيين جدد، فإن البرازيل وإسرائيل
توصلتا إلى حل بالغ العملية والسهولة، هو المساهمة فى إنتاج أفلام، جاءت
ميزانياتها من معونات من مختلف دول العالم، وليس غريبا أن تقرأ على عناوين فيلم
إسرائيلى مثلا أسماء عشرات الجهات الى ساهمت فى إنتاجه (بما يعنى أن كل جهة منها
دفعت مبلغا معقولا)، ولا تستغرب أيضا أن الجهة المسئولة عن جمع هذه المساهمات هى
وزارة التعاون الدولى!!
هل فكرنا يوما فى الاستفادة من تجارب بلدان أخرى، واجهت
نفس الأزمة التى نواجهها؟ أم أننا منغلقون على ذواتنا نجتر الأزمة التى تصبح يوما
بعد يوم مرضا مزمنا يصعب علاجه؟ إن هذا بالضبط هو ما يجعلك تتساءل إذا ما كان
المسئول عن جهة ما يعرف رسالته حقا، خاصة أن بعض المسئولين راقدون فى مراكزهم عبر
سنوات طويلة، وما يفترض أنها عصور مختلفة، دون أن ينجزوا شيئا حقيقيا على الإطلاق.
فبعض المسئولين عن إنفاق ما يقرب من عشرين مليون جنيه على فيلم بالغ الادعاء مثل
"المسافر"، لم يحقق نجاحا فنيا أو تجاريا، هؤلاء المسئولون ما يزالون
يحتلون مقاعدهم، وكأن وجودهم برهان على خطأ سياسة الدعم، دون أن يفكر أحد فى أنه
لم يكن دعما، بقدر ما كان "سبوبة" تستفيد منها أطراف عديدة، وتخسر منها
السينما.
الحقيقة المريرة فى ذلك كله أننا أصبحنا على الأصعدة
المختلفة "عبيدا للنصوص"، سواء كان ذلك النص قانونا يجب تغييره لأنه لا
يحقق العدل، أو آلية تحمل اسما مراوغا مثل "الدعم" لا تحقق الغرض منها،
أو شعارا مثل "حرية التعبير" أو "عدم ضرورة وجود وزارة للثقافة".
نحن فى حاجة إلى القانون، والدعم، ووجود وزارة للثقافة تعرف دورها الحقيقى بحيث لا
تتحول إلى "هيئة استعلامات". وكل ذلك يحتاج إلى رؤية واضحة، من
المسئولين والسينمائيين معا، رؤية تشمل ثورة حقيقية من أجل صناعة سينما، وليس مجرد
صنع الأفلام.
No comments:
Post a Comment