Monday, December 04, 2017

فيلم "باريس يمكنها الانتظار".... اكتشاف مذاق ورائحة الحياة



فيلم "باريس يمكنها الانتظار" Paris Can Wait تجربة متفردة بحق في عالم صناعة الأفلام، ربما لسنا معتادين عليه في مشاهداتنا للسينما، والتي تكاد أن تنحصر في عالمنا العربي في الأفلام الأمريكية ذات الطابع المثير، المليء بالحركة وربما العنف أيضا، لكن هذا الفيلم يكاد أن يتسم بطابع أوربي، متأمل متمهل، تبدو فيه تجارب الحياة اليومية، العادية جدا، هي مادة الأحداث، بلا تشويق ولكن بلا ملل أيضا، فليس ما يثير اللفضول فقط هو ما يحدث "خارج" النفس البشرية، لكن ما يحدث "داخلها" لا يقل إثارة للاهتمام.
لكنك لن تستطيع أيضا أن تفهم مغزى فيلم "باريس يمكنها الانتظار" إلا إذا قارنته بتجارب قليلة مماثلة في السينما الأمريكية ذاتها، في الأفلام قليلة التكاليف التي تعتمد على عدد قليل جدا من الممثلين والشخصيات، هم في أغلب الأحوال رجل وامرأة، جاء كل منهما من عالم مختلف، لكن اللقاء العابر بينهما، ودون أي خطة مسبقة، سوف يحمل لإحدى الشخصيتين أو كلتيهما تغييرا جوهريا في حياتها، خاصة أن تلك التجربة من المعايشة لن تستغرق إلا ساعات محدودة، لكنها تساوي عمرا من الزمن.
فلنتعرف أولا على كاتبة الفيلم ومخرجته ومنتجته، إنها إليانور كوبولا، زوجة المخرج الأمريكي الأشهر فرانسيس فورد كوبولا، وأم صوفيا كوبولا الابنة التي تقدم نوعية مختلفة من الأفلام، سوف نتوقف عند أحدها بعد لحظات، وهي أيضا من أقارب الممثل النجم نيكولاس كيدج، الذي فضل لنفسه اسما غير اسم عائلته الشهير، فهي إذن سينمائية حتى أطراف أصابعها، قامت بأدوار إنتاجية عديدة في أفلام زوجها فرانسيس، وصنعت فيلما تسجيليا بالغ الأهمية يحمل اسم "قلوب الظلام: يوم قيامة مخرج"، سجلت فيه تلك الرحلة الإبداعية التي قام بها كوبولا في فيلم "يوم القيامة الآن"، وكاد أن يقف فيها على حافة الجنون، بسبب الصعوبات الهائلة التي واجهها.
لكن فيلم "باريس يمكنها الانتظار" هو فيلم إليانور كوبولا الروائي الأول، وقد أشرفت على الثمانين من عمرها، لذلك يبدو الفيلم في جانب منه كأنه استكشاف سينمائي لحياتها، ففيه ملامح عديدة من واقعها، وربما هي أيضا تسجل فيه كيف مرت بتجربة عابرة في حياتها، أعطتها معنى جديدا للحياة. والحبكة بالغة البساطة: الزوج الأمريكي مايكل (أليك بولدوين) منتج سينمائي يحضر مع زوجته الأمريكية آن (ديان لين) إلى مدينة كان الفرنسية، وبعد انتهاء زيارتهما يكون عليهما السفر إلى باريس بالطائرة، لكن ألما يصيب آن في أذنيها، فيسدي الطيار لهما نصيحة بأن تذهب هي إلى باريس بالسيارة، حتى لا يزيد الألم بسبب الطيران، وهكذا يطلب الزوج مايكل من صديقه الفرنسي جاك (آمو فيار) أن يصحب الزوجة بالسيارة إلى باريس.
في الأوقات العادية لن تستغرق هذه الرحلة إلا ساعات، لكن جاك يريد أن تستمع آن بكل لحظة من السفر، فيتوقف بها في محطات كثيرة، يتحدثان ويتناولان الطعام والنبيذ الفرنسيين، ويريان بعضا من معالم المدن الصغيرة على الطريق، حتى أن الرحلة سوف تستغرق يوما وليلة، تكون آن قد تعرفت فيها على الحياة على الطريقة الفرنسية، وتستيقظ في الصباح في باريس وهي تشعر أنها أصبحت مخلوقا جديدا. ولعلك لن تخطئ ما في الفيلم من دعاية سياحية، أظنها ساعدت كثيرا في الإنتاج وقللت من تكاليفه، لكن الفيلم في جوهره – رغم استغراقه أحيانا في هذه التفاصيل السياحية – يقصد هدفا مختلفا تماما.
وهنا لابد من الإشارة إلى أفلام أخرى، تبدو كأنها تنويعات على "التيمة" ذاتها، ولنبدأ بفيلم الابنة صوفيا كوبولا "ضائع في الترجمة"، ففي إحدى مدينة طوكيو شديدة الازدحام، أمريكيان غريبان: ممثل سينمائي كهل (بيل موراي) جاء إلى اليابان لتصوير إعلان تليفزيوني، والشابة (سكارليت جوهانسون) زوجة أحد مصوري الأفلام، والذي يكون عليه تركها وحيدة في الفندق لساعات وربما أيام لانشغاله بالعمل. إن الرجل والمرأة وحيدان، لا يعرفان اللغة اليابانية مما يزيد اغترابهما، لكن ذلك سوف يكون هو السبب نفسه في اقترابهما ليوم واحد، يطوفان خلاله في المدينة، وإن كان الأهم هو استرداد كل منهما للشعور بدفء الحياة.
في نهاية فيلم "ضائع في الترجمة" لقطة من بعيد للكهل والشابة، يهمس لها بشيء ما ثم يفترقان، وعندما سأل الصحفيون صوفيا كوبولا عما قاله الرجل للمرأة، أجابت: لا أدري، لقد كنت بعيدة عنهما! ليست هذه إجابة طريفة فقط، بل إشارة إلى النهاية المفتوحة، إن اللقاء العابر لم يتحول إلى قصة حب مبتذلة، لكنه أصبح تعبيرا عن الحاجة الملحة للدفء الإنساني. ترى، هل التقى الكهل والشابة مرة أخرى؟ ربما صنعت صوفيا كوبولا بعد فترة فيلما تحكي فيه عن مصيرهما، وهذا بالضبط هو ما فعله مخرج أمريكي يبدو التجريب الدائم في كل الأنماط السينمائية شغله الشاغل، وهو ريتشارد لينكليتر.
منذ أكثر من ثمانية عشر عاما صنع لينكليتر فيلما بالغ البساطة، عن طالب أمريكي (إيثان هوك) في رحلة سياحية وحده إلى أوربا، يلتقي بالصدفة بشابة فرنسية (جولي دلبي) في قطار، ويقضيان ليلة واحدة يطوفان فيها بمعالم مدينة فيينا، ويفترقان عند الفجر، على وعد باللقاء بعد تسعة أعوام في نفس المكان على محطة القطار. كان اسم الفيلم "قبل الشروق"، ليصنع لينكليتر بعد تسعة أعوام أخرى فيلما باسم "قبل الغروب"، يسجل فيه لقاءهما ليوم واحد آخر بعد أن مضت كل تلك الأعوام وتفرقت بهما السبل، وبعد تسعة أعوام ثانية صنع فيلمه الثالث "قبل منتصف الليل" يحكي فيه عن علاقتهما الآن. في كل هذه الأفلام اشترك البطل والبطلة في كتابة السيناريو والحوار، وكأنهما الشخصيتان اللتان يقومان بتجسيدها بالفعل، لذلك كانت تلقائية الحوار وعفوية المصائر دون حبكة مصنوعة مسبقا هما السمة الرئيسية للأفلام.
لقد كان ذلك هو طابع الحوار والأحداث في فيلم إليانور كوبولا "باريس يمكنها الانتظار"، لكن التغير في شخصية المرأة يبدو واضحا كلما مضت في طريق السفر، وتعرفها على الحياة الفرنسية. إن حياتها كزوجة أمريكية لرجل أعمال ثري مشغول عنها تتسم بالرتابة، لكن الرحلة بسيارة عتيقة إلى باريس سوف تحمل لها مفاجآت صغيرة تجعلها سعيدة، وهي تبدأ كمعظم الأمريكيين مغرمين بالتقاط الصور للأشياء، لكنها تنتهي وهي تتذوق هذه الأشياء وتشم عبيرها. وسوف تعرف في الرحلة أن لكل شيء مذاقا ونكهة خاصين به، ويبدو تناول الطعام كأنه طقوس تستمد قيمتها من احترامها، فإذا كان من الطريف وجود مئات الأصناف من الجبن، فإن من الأطرف طريقة تقديم قطعة جبن صغيرة، وكأنك تتعامل مع شيء مقدس!
قد يعاني الفيلم من بعض التكرار في مناطق هنا أو هناك، لكنه لا يفقد إثارته بفضل أداء الممثلة ديان لين، فعلى وجهها تطفو دائما مشاعر الانبهار والاكتشاف. لكن الأهم هو أن الفيلم يعكس إحساسا دفينا في اللاوعي الأمريكي، إن الأمريكيين قد يشعرون بالبارانويا المتمثلة في مشاعر التفوق المادي على العالم، وحسد العالم لهم، لكنهم يقفون مبهورين أمام جدار صخري روماني عمره أكثر من ألفي عام! بل ربما استدعى الفيلم إلى الذاكرة مشهدا طريفا من الحلقات التليفزيونية للأطفال "شارع سمسم"، وفيه تجلس "مس بيجي" مبهورة بحديث المغني والممثل الفرنسي شارل أزنافور لها، إذ تبدو الكلمات الفرنسية وهي تخرج من بين شفتيه وكأنها موسيقى، بينما يكون في الحقيقة يتحدث عن... المجاري!!
يشعر الأمريكيون إذن في قرارة أنفسهم بنوع من الضآلة أمام الأمم ذات التاريخ العريق والثقافة العميقة، لكن هذا ليس هدف الفيلم الرئيسي. في العنوان الفرنسي للفيلم، "صباح الخير يا آن" دلالة أكثر عمقا، فكأن آن استيقظت مع استيقاظ حواسها، المذاق والشم واللمس، والأهم هي المشاعر، ليبقى السؤال معلقا دون إجابة: ترى سوف تجعل هذه التجربة آن أكثر استمتاعا بحياتها المعتادة، أو أنها سوف تدرك فتور هذه الحياة؟                         

1 comment:

SSh said...

كلامك المحمل بالوعي وخبرة السنين وتلك العين المتمرسة التي تتابع الافلام لقطة بعد لقطة من غير أن تهمل شاردة أو واردة ، واللغة المتوازنة والعارفة بخبايا السحر السينمائي وبواطنه والإمتاع المتواصل بالطرح ، يلزمني بأن أرفع لك القبعة يا سيدي وان أقول شكرا لك على كل ما تقدم في هذا المكان....